تمهيد:
ساد في الوسط العلمي الشرعي حصر الدليل في النص الشرعي، وما ليس فيه نص فلا دليل عليه، وهو نتاج لخطأ أكبر وهو ضرب الصناعة الحديثية بالصناعة الفقهية والأصولية، وقد ظهرت ثقافة عدم الدليل إذا لم يوجد نص، وتَتَوهّم هذه الثقافة بأن ذلك من الاحتياط في الدين، ولكنها كانت عَين التحلل منه، ذلك لأن توهم صناعة الفتوى تكون من النص فقط، يعني أنه لا حكم شرعي فيما لا نص فيه، ويترتب على ذلك هدم أصول الشريعة العامة من إجماع وقياس، وسد للذرائع، ومصالح مرسلة وغيرها، ويحدث ذلك بسبب إقصاء الصناعة الفقهية والأصولية، صاحبة الاختصاص والصلاحية في أمر الفتوى، وهي بذلك تتكامل مع الصناعة الحديثية التي تتولى واجبها في الكشف عن رتبة الحديث صحة وضعفا ووضعا.
أولا: هل هناك نص صحيح صريح في تحريم مصافحة الرجل المرأة الأجنبية؟
وُجِّه إليَّ هذا السؤال الذي تحول من سؤال إلى أزمة فتوى، ومن المعروف أن ماورد في هذا الباب من نصوص، لا يكاد ينهض بحجة قاطعة وحاسمة، لأنه ضعيف أو مختلف في صحته، أو مؤول في فهمه، مما يعني أن الصناعة الحديثية قامت بواجبها في حمل أمانة الواجب المنوط بها، وهو بيان رتبة الحديث وليس من مهمتها الفتوى، لأن الفتوى لا تكون بناء على النص فقط، ويحسب الناس أنه إذا لم يكن هناك حديث صحيح، فلا يجوز تحريم المصافحة، لعدم صحة نص في الباب، وإذا اقتصرنا على شرط وجود النص في التحريم فإن مصافحة الأجنبية جائزة، ومَن كره المصافحة فهذا شأنه، مما فتح بابا للتحلل في الدين، وإخضاعه للرأي والرأي الآخر في غيبة المنهج الأصولي.
ثانيا: خطوات الشيطان لا تكاد تنتهي:
بعد أن تم ارتكاب الخطأ في الكلي، وهو محاولة الفتوى من داخل الصناعة الحديثية، ومحاولة ضرب الصناعة الحديثية بصناعة الفتوى، بناء على أنه لا يجوز العمل بالحديث الضعيف، لم يجد هذا المنهج مناصا من أن يسعى جاهدا في تصحيح أحاديث تحريم المصافحة، لتكون المصافحة حراما، ولكنها محاولة تكشف خللا في الكلي، ومع ذلك سيبقى النزاع قائما، في عدم توفر حديث صحيح صريح في الموضوع، وجميعها منازع فيها صحة وضعفا، وعليه سيتمسك من شاء بحرية المصافحة.
ثالثا: تلبيس إبليس في المرحلة التالية للشيطان:
1-الواقع حوَّل المسألة إلى أولَوية قصوى:
لم تكن مسألة المصافحة مسألة جديرة بالاهتمام في تاريخنا الإسلامي، ولم تحتل عشر معشار مكانتها اليوم، ولكنها استفادت أهميتها وأولويتها من الواقع المتأثر بالغزو الثقافي، وأصبح الواقع هو الذي ينتج الفتوى والثقافة للناس، فالهَمّ الأكبر هو محاولة التوافق مع الواقع والانقياد له، ولكن لو سألنا: ما الدليل الشرعي الذي يحرم أن يمَسّ الرجل بيده وجْه المرأة الأجنبية، فلن نجد دليلا صحيحا صريحا.
2-لا نص ضعيف ولا صحيح في مس وجه الأجنبية:
وسيقال في ذلك ما قيل في المصافحة، لا دليل صحيحا على تحريمه، ثم بعد ذلك سيرفض أنصار المصافحة مَسَّ الوجه، لأن الواقع الديني لا يقبله وليس الدليل، ويواسون أنفسهم بصناعة فروق وهمية بين مس الوجه والمصافحة، هذه الفروق لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن مس الوجه صادم لشعورهم وذوقهم الديني، فسيسعون للتحريم دون وجود أي دليل صحيح صريح، ويظهر هنا مدى تأثير الواقع في صناعة التدين المتأثر بالواقع، لا بالاستدلال المنهجي المنضبط، وسيبقى أيتام الدليل عاجزين عن الوصول إلى حسم علمي في الموضوع.
رابعا: كيف يعالج الأصوليون والفقهاء المسألة:
1-منهج الفتوى له أصول تابعة للنص:
إن الأصوليين لا يكتفون بالنظر في ثبوت النص الشرعي فقط، لِـيـَبـنوا عليه حكما شرعيا، لأن عملهم هو وضع النص الشرعي ضمن أصول كلية في النظر، وليس النص الشرعي هو وحده الذي يستنبط منه الحكم، لأن النص بشقيه الكتاب والسنة هو مصدر أصلي، تتفرع عنه أصول ومصادر، ويمكن للفقيه الاستنباط من الأصول إذا لم يسعفه النص بدلالاته المتفاوتة في قوتها.
2- إعادة توجيه السؤال بناء الأصول التابعة للنص:
فإذا تم توجيه السؤال للمجتهد، ما حكم مصافحة الرجل الأجنبية، ولم يجد نصا صحيحا صريحا، فإن لديه أصولا كلية تابعة للنص ستسعفه في كل ما يستجد، وهو الذي يصدق فيهم قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) 83، النساء، وهذا يختلف عن الصناعة الحديثية التي لها أصول تتناسب مع موضوعها في طرق إثبات النص الشرعي.
خامسا: ما هو الأصل في المرأة بالنسبة للرجل:
1-الأصل بين الزوج وزوجته الحل والسؤال الصحيح ماذا يحرم من الزوجة؟
إن الأصل في العلاقة بين الزوجين هو الحل، وإذا سأل رجل ماذا يحل لي من زوجتي؟ فنقول له، إن الحلال غير معدود ولا نحصيه عَدَّا إلى يوم القيامة، لأن الأصل بين الزوجين هو الحل، فيصحح السؤال ماذا يحرم على الرجل من زوجته؟ فيجاب ما هو معروف من المنع أثناء الحيض مثلا، وأؤكد أنه لا بد من تصحيح سؤال السائل، ونقول له صحح السؤال، وقل ماذا يحرم بين الزوجين؟ ولا تقل ماذا يحل؟!
2-الأصل بين الرجل والأجنبية هو التحريم، فيقال ماذا يحل للرجل من المرأة الأجنبية؟
لو سأل أحد ماذا يحرم على الرجل من المرأة الأجنبية، نقول له إن التحريم هنا لا يحصى ولا يعد، وهو أصل، وبما أن الحرام غير معدود لأنه هو الأصل، نسأل ماذا يحل للطبيب، والقاضي والشاهد من المرأة الأجنبية، ولا نقول ماذا يحرم؛ لأنها كلها حرام على الرجل الأجنبي عنها، ولذلك يُصحَّح السؤال، ونقول ماذا يحل أن يراه الطبيب من المريضة مثلا، ولا نقول ماذا يحرم؟ لأنه يحرم عليه كل شيء إلا ما تقتضيه ضرورة العلاج فقط، ولا يتوسع في هذا لأنه خلاف الأصل، والنص الأصيل في مسألتنا محل البحث قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري : «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فالمرأة الأجنبية حرام في الأصل، والأصل دليل بنفسه.
سادسا: أين الدليل الشرعي على ما قلته سابقا في ضرورة تصحيح السؤال:
1-من الكتاب:
أ-تفصيل الحرام من الطعام والإطلاق في الحلال:
قال تعالى: (وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)119، الأنعام، فقد بينت الآية الكريمة منهج الكتاب في توجيه المسلمين في دينهم، بأن الأصل في الطعام الحل، والحل في الطعام هو الأصل، وليس محل تفصيل لأنه غير معدود ولا محدود، بينما فصل الله تعالى لنا المحرمات فقال جل شأنه: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)، فلا تسأل يا مسلم ماذا يحل لك من الطعام، ولكن اسأل ماذا يحرم عليك؟
ب-تصحيح موسى عليه السلام سؤال الفرعون:
ولما سأل الفرعون موسى عليه السلام، في قوله تعالى: (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) سورة الشعراء، فقد سأل الفرعون بقوله (ما) عن حقيقة ذات الله تعالى، وهي لا يعلمها إلا الله، فصحح موسى عليه السلام سؤال الفرعون، في الجواب، فلم يجب موسى عليه السلام فرعون عن حقيقة الذات، بل أجابه بالصفات، فقال موسى عليه السلام : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) مما يعني ضرروة أن يصحح سؤال المستفتي لا أن يقع المفتي في سوء فهم السائل.
2- من السنة: تصحيح الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال:
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية مَالِكٌ، عن نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: «لا يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ …» لاحظ أخي القاريء، كيف صحَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- سؤال السائل الذي سأل، فقال: مَاذَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ ولما كان الجائز كثيرا، والمحرم قليلا، وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم سؤال السائل، فأجابه لا يلبس… ولم يقل له: يلبس كذا كذا، وهذا من مهمة المفتي أن يصحح أسئلة السائل، ليسأل عن: ماذا يحرم لا ماذا يحل؟ وهذه هي السنة المتبعة في الفتوى، هي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما مر في الحديث.
سابعا: الأصل بين الرجل والمرأة الأجنبية التحريم والسؤال الصحيح ما الدليل على الإباحة؟
إذا عرفت ما سبق حسب منهج الأصول والفتوى صاحب الاختصاص في المسألة، فإذا كان الأصل هو التحريم، فهو دليل بنفسه، ولا يطلب الدليل على الأصل لأنه التحريم، فلا يصح أن تقول ما هو الدليل على التحريم؛ لأن الأصل في المرأة الأجنبية التحريم، فيحرم على الرجل مسُّها مطلقا إلا ما كان ضرورة للطب ونحو ذلك، ومن كان على الأصل، وهو تحريم المرأة الأجنبية لا يحتاج دليلا، بل الدليل على من يقول بإباحة المصافحة، ولا يعنينا كون الأحاديث الواردة في الأمر واهية وضعيفة، ولا نحتاج دليلا نصيا على تحريم مس وجهها مثلا، لأن الدليل أصل عام وهو التحريم.
ثامنا: ماذا لوصححنا سؤال: أين الدليل على تحريم مصافحة الرجل المرأة الأجنبية؟
1-لن تجد دليلا على تحريم مس وجه المرأة الأجنبية:
لو صح السؤال، لن تجد دليلا نصيا صحيحا صريحا، وستطالب بما هو زيادة على المصافحة؟ كحكم مس وجهها مثلا أو رأسها أو قدمها وغير ذلك! وعلى فرض وجدت الضعيف أو المختلف في تصحيحه في المصافحة، فلن تجد دليلا على تحريم مس الوجه وغير ذلك! وسيكون طلب نص صحيح صريح في أمر مس الأجنبية هو باب ظاهره التقوى وباطنه من قِـبَلِه التحلل والفجور.
2-سبب الفوضى هو ضرب الصناعة الحديثية بالأصولية:
وكل ذلك بسبب الدخول إلى الفتوى من باب الصناعة الحديثية، وهِجران جهة الاختصاص وهي صناعة الفتوى والأصول، وضرب الصناعات الثقيلة في الدين كصناعة الحديث والفقه، وبدلا من التكامل الطبيعي بين الصناعتين، أصبح التناقض والتفكيك لهذه الصناعات الثقيلة ديدنا لبعض المتدينين بذريعة الدليل، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تفكيك الدولة والمجتمع لصالح الفكر الهدمي من ثنائي النكد التحلل والغلو.
تاسعا: لماذا يستدل الفقهاء بالأحاديث الضعيفة:
1-مدارس فقه السلف الأربع متفقة على تحريم مصافحة الأجنبية:
اتفقت مدارس فقه السلف الأربع على تحريم مصافحة الأجنبية بصفة عامة، وعندما يناقشون تحريم المصافحة، يسردون الأحاديث الضعيفة بل والواهية أحيانا، ولكنهم لا يستدلون بها استقلالا، بل يذكرونها لأنها مندرجة تحت أصول عامة وأقيسة ثابتة، على نحو ما مر سابقا في المصافحة، فدليلهم هو الأصل الكلي في تحريم المرأة على الرجل الأجنبي، ويستأنسون بذكر ما ورد من الضعيف تبعا.
2-الفتوى على أصول الفقه لا على أصول الحديث:
ثم خَلَـفَت خُلُوف من طلاب لا يدرون أصول الفقهاء والمجتهدين، ولا أقيستهم، فتوهموا أن الفقهاء بنوا فقههم على أحاديث ضعيفة، دون أن يفقهوا منهج الأصولين والفقهاء في الفتوى والنظر، وراحوا يخبطون خبط عشواء بين المدرستين الحديثية والأصولية، بحجة نبذ التقليد وجرأة منهم على أدلة الشريعة، فكان هذا مدخلا للتحلل من الدين بذريعة عدم وجود نص صحيح.
3-خصخصة الفتوى والتدين بذريعة(كلُّ له دليل):
وشاعت وجهات النظر والآراء الشخصية في الدين وقُدِّمَت للناس على أنها فتوى شرعية لعدم وجود النص، وأصبح الدليل في وهم بعض الطلاب ضربا من الرأي والرأي الآخر لغيبة المنهج الأصولي في الاستدلال، وتحول الدين إلى الرأي والرأي الآخر بذريعة أن لكل دليله، وشاعت الحالة الفردية في التدين وفَـقَد المجتمع قِبلته العامة الجامعة، بسبب انفلات العامة على الأدلة، واستفتِ قلبك يفتيك.
عاشرا:الخلاصة:
1-الصناعة الحديثية تتكامل مع الصناعة الأصولية، ومحاولات ضربهما ببعضهما سيؤدي إلى تفكيك العلوم الشرعية.
2-النظر في الأدلة يكون وفق المنهج الأصولي في الاستنباط، وبغيره نكون أمام سلطة خفية على النص الشرعي، وأصبح النص الشرعي محكوما بآراء الأفراد بحجة الدليل.
3-يترتب على ذلك ظهور نزعات فردية في التدين، وخصخصة الفتوى والتدين، فكل له دليله “واستفت قلبك يفتيك”، وفقدت الأمة مدارس الفقه العلمية الجامعة.
4-يترتب على ذلك القضاء على الدين بوصفه جامعا للأمة، وتصبح الأمة على شكل أفراد متناثرين على الخارطة في مجتمعات متفككة، سهلة التناول والهضم للفكر اللاديني الذي يستطيع أن يستوعب الحالة الفردية للتدين، ضمن نموذجه الثقافي.
5-الفتاوى الشاذة أشد ضررا على المجتمع من سلاح العدو، خلافا لمقولات طائفة اللادينيين، الذين لا يتجاوزون حِمل بعير أعرج، لأن الفتاوي الشاذة، ستخرج ثنائي الشر الغلو والتحلل، وهذان كفيلان بهدم الأمة من داخلها، وعلى العدو أن يستريح، لأن الفتاوى الشاذة في التكفير والتحلل، ستقوم بما لا تستطيعه أسلحة العدو، والواقع يشهد بذلك.
6-تمثل مدارس فقه السلف الأربع الإطار الجامع، القادر على إعادة الجماعة إلى الأمة بدلا من الفرقة والتنازع في الدين، وبديلا صحيحا لخصخصة الفتوى والتدين باسم الدليل، وختاما أقول أعيدوها على قواعد إبراهيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق