الجمعة، 1 مارس 2024

شروط وضوابط البدعة الحسنة

 شروط وضوابط البدعة الحسنة

وهكذا نأتي على نهاية المطاف، وقد تبين لنا بياناً لا يعتريه غموض أن البدعة في اصطلاح الشرع منقسمة إلى بدعة هدى وبدعة ضلالة، وأن البدعة الحسنة ثابتة بأدلة قوية من القرآن والسنة وأقوال السلف، وثبوتها هو مذهب جمهور العلماء من متقدمين ومتأخرين، فقهاء ومحدثين وأصوليين.
ويحسن بنا قبل أن نختم بحثنا هذا أن نُذكِّر بأن البدعة لا يثبت حسنها إلا بضوابط وشروط لابد منها، تجعلها مقبولة في ميزان الشرع، مندرجة تحت غطائه، وليس الأمر بالتشهي ولا باتباع الهوى، فالأمر جدُّ خطير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شدّد الوعيد والتحذير، إذ قال: »...وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة«.
فلابد في كل أمر محدث من نظر فقيه مجتهد عالم بموازين الشريعة، وقواعدها وضوابطها لينظر هل تندرج هذه البدعة في ميزان الشريعة فتكون بدعة حسنة، أو لا تندرج فيها فتكون بدعة ضلالة، ونحن فيما يلي سنذكر أهم الضوابط والشروط التي ينبغي أن تتوفر في البدعة حتى تكون حسنة، وذلك مما فهمناه من تدبرنا في الآثار وأقوال العلماء ونصوصهم في هذه القضية.
فنقول وبالله التوفيق:
الشرط الأول:
أن تكون البدعة في أمر من أمور الدين التعبدية، لا في العادات والأمور المعاشية التي لا تعبد فيها، دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد«، وقد سبق أن قلنا: إن مفهوم هذا الحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فهو مقبول غير مردود. وشاهدنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم »في أمرنا هذا« وفي الرواية الأخرى »في ديننا«. وذلك يعني أن الإحداث في غير الدين من العادات ومما لا تعبد فيه لا يوصف في اصطلاح الشرع بكونه بدعة هدى أو بدعة ضلالة، فإن أحداً من العقلاء لا يقول مثلاًِ: إن ما أحدث بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ركوب الطائرات والسيارات وغيرها من البدع، سواء في ذلك الحسنة والقبيحة. ويقرب من ذلك ما شاع في كثير من بلاد المسلمين من الأكل بالملاعق عوضاً عن الأكل بالأصابع، فإن ذلك من العادات التي لا توصف بكونها بدعة لا بدعة هدى ولا بدعة ضلالة، ومن جعلها من بدع الضلالة فإنه أخو جهل ينطق بغير علم ولا فقه، وعلى من ادعى ذلك أن يلزم الناس في أيامنا هذه بالأكل من نوع نفس الطعام الذي أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نفس أوقات أكله، وأن لا يشربوا بكؤوس الزجاج وغيرها مما لم يشرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. مع أن ذلك لم يقل به أحد من المسلمين، فنعوذ بالله من الجهل وما يتولد منه من مضحكات مبكيات.
نعم، قد يدخل هذا الأمر التحريم من جهة ثانية غير جهة البدعة، وذلك إذا اقترن به نية التشبه بالكفار بتقليدهم بالأكل بها، فإن التشبه بهم منهي عنه ولا يجوز ارتكابه في أي فعل من الأفعال، لا في هذا الفعل فحسب، على أن من يأكل بها من المسلمين اليوم إنما يجري منهم ذلك مجرى العادة الصرفة، لا نية لهم بالتشبه بالكفار لا من قريب ولا من بعيد.
الشرط الثاني:
أن تكون مندرجة تحت أصل من أصول الشريعة، أو داخلة تحت شيء من مقاصدها، أو أمر عام من أوامرها، وهذا الشرط مما تكاد تجمع كلمة كل عالم أثبت البدعة الحسنة على اشتراطه، وقد رأينا ذلك في ما سقناه من كلامهم.
مثال ذلك: جمع سيدنا عمر رضي الله عنه الناس على عشرين ركعة في صلاة التراويح في رمضان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد عنه أنه صلى التراويح عشرين ركعة. لكن ذلك يندرج تحت أصل عام، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ« وقوله صلى الله عليه وسلم: »اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر« وهذه سنة عمر أحد الخلفاء الراشدين المهديين التي أمرنا باتباعها والعض عليها بالنواجذ.
على أن صلاة التراويح تندرج أيضاً في صلاة قيام الليل التي لم يرد في شأنها تخصيص بعدد معين، بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلاها بأعداد متفاوتة مما يؤذن بصحة صلاتها بأي عدد كان.
ومثاله أيضاً: ما يقيمه المسلمون من الموالد، فإن المولد في حقيقته ليس إلا اجتماعاً على ذكر لله ومدح وثناء وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءة لقصة مولده الشريف، وكل ذلك يندرج تحت أصول عامة في الشريعة، من طلب الإكثار من ذكر الله، والحث على الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحض على العلم الذي يندرج تحته قراءة قصة مولده الشريف، وأما مدحه والثناء عليه فمما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المادحين له من الشعراء وغيرهم في عهده صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على أحد. فهو من البدع الحسنة لذلك ما في ذلك شك ولا ريب.
الشرط الثالث:
أن لا تصادم البدعة نصاً من نصوص الشريعة، ولا يكون في فعلها إلغاء لسنة من سنن الدين. نلمح هذا الشرط جلياً في كلام الإمام الغزالي رحمه الله، وذلك في قوله:
إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها. انتهى.
مثال ذلك: مسألة السبحة، فإنها في رأينا من البدع الحسنة، وذلك أنا أمرنا بتسبيح الله مئة مرة مثلاً، وضبط العدد شيء يحتاج إلى آله تضبط، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلمنا كيف نضبطه ولم يحدد لنا آلة لذلك، إذن فأي شيء يضبطه لنا فهو مستحب، فإن القاعدة الشرعية معلومة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فكذلك ينبغي أن يكون ما لا يتم المطلوب الشرعي إلا به فهو مطلوب شرعاً، فمن أراد أن يذكر بهذا العدد يستحب له أن يتخذ شيئاً يضبط به العدد المأمور به، سواء كان ذلك سبحة أو حصى أو عقداً في خيط أو غير ذلك.
فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم سبح على عقد أصابعه بعد الصلاة، ورغب فيه، وورد أيضاً تقريره على التسبيح بالنوى في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نوى أو حصى تسبح، فقال: »أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟ قولي: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا قوة إلا بالله مثل ذلك«(1).
وثبت أنه كان لأبي الدرداء وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي صفية نوى أو حصى يسبحون بها. وانظر كتاب وصول التهاني للشيخ محمود سعيد ممدوح ففيه تفصيل كل ذلك.
فإذا علمنا ذلك، علمنا أن من يلزم الناس بضبط عدد الذكر بعقد الأصابع ويبدع مرتكبَ غير ما أمر به، متحكمٌ مصادمٌ لسنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها، أو فعلها بعض أصحابه الكرام وهم أكثر الناس حرصاً على متابعته صلى الله عليه وسلم والتأسي به، فكان في ذلك مبتدعاً لأنه أفضى إلى تغيير سنة ثابتة. والله أعلم.
ومثاله أيضاً: إحداث ذكر غير الذكر الوارد عقب الصلوات، إذ إن أي ذكر لله سبحانه وتعالى أمر مشروع في حقنا، وقد أمرنا به في كثير من آيات القرآن والأحاديث الشريفة وهو غير خافٍ على أحد، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سن لنا عقب الصلوات ذكراً مخصوصاً، فاستبداله بذكر آخر غير الوارد وإلغاؤه بأوراد محدثة من عندنا داخل في حيز البدعة المذمومة، مع أن ذلك في أصله ليس ببدعة، وذلك لمصادمته هنا للسنة القديمة كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى.
الشرط الرابع:
كما يشترط في البدعة الحسنة أن يراها المسلمون أمراً حسناً، بعد أن لا يكون فيها مخالفة للكتاب أو السنة أو الإجماع.
وهذا الشرط ذكره الإمام العيني في معرض كلامه عن البدعة الحسنة فقال: وهي ما رآه المسلمون حسناً، ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة والإجماع. انتهى.
مثال ذلك: الأذان الأول يوم الجمعة، فقد أخرج البخاري وابن ماجه والترمذي عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
قال الإمام النووي: إنما جعل ثالثاً لأن الإقامة أيضاً تسمى أذاناً. انتهى.
فهذا الأذان زيادة من سيدنا عثمان رضي الله عنه وهو من الأمور التعبدية الصرفة، وقد استحسنه الصحابة رضوان الله عليهم ولم ينكره أحد منهم، ثم جرى العمل عليه من بعده دونما نكير، فكان بدعة حسنة.
ويمثل لذلك أيضاً بتحديد ركعات التراويح في رمضان بعشرين ركعة، كما جمعهم عليه سيدنا عمر ابن الخطاب وجرى العمل عليه دونما نكير، ولذلك قال ابن تيمية: فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث، فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر(1).انتهى.
وبهذا نكون قد أتينا على نهاية المطاف، وقد استعرضنا فصول بحثنا ومطالبه، بأسلوب سهل، وعبارة سلسلة، واختصار مقنع.
وإنا لنسأل الله العظيم أن نكون قد وفقنا في إظهار الحق من الباطل في هذا الموضوع الخطير، وأن يجعله عملاً خالصاً لوجهه الكريم، وينفع به كل مبتغ للحق، وطالب للصواب. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق