الأحد، 17 مارس 2024

القول بالإحسان العميم في انتفاع الميت بالقرآن العظيم

 القول بالإحسان العميم في انتفاع الميت بالقرآن العظيم



للإمام العلامة نور الدين محمد بن علي بن محمد بن عمر بن عيسى
المعروف بابن القطان العسقلاني 813 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين وعلماء المسلمين وفقهم الله لطاعته أجمعين.
في كيفية الدعاء لميت بعد موته على ما ورد به الحديث، فإن القراء حين يدعون يهدون قراءتهم إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى من تلي لأجله، فهل ورد بهذا خبرٌ أو أثرٌ أم لا؟ وهل يصل ثواب القراءة للميت أم لا؟ وهل يكفي ثوابٌ أو يتعين مثل ثوابٍ؟ أفتونا مأجورين أبقاكم الله وأثابكم الجنة بمنه وكرمه.
فأجاب: اللهم ارشدني للصواب.
القراءة وإهداؤها للنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فيه خبرٌ ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين ابن الفركاح، وقال الحافظ أبو عبد الله محمد ابن قيم الجوزية في كتابه ((الروح)) في الإهداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: من الفقهاء المتأخرين من استحبه، وسيأتي ما يعضد الجواز، ومنهم من لم يستحبه ورآه بدعة، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعله أحد منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم غنيٌ عن ذلك إذ له أجر كل من عمل خيراً من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيءٌ.
وقال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصلٌ فيه.
واختلف العلماء في ثواب القراءة للميت، فذهب الأكثرون إلى المنع وهو المشهور من مذهب الشافعي ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية.
واستدل بقول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وبقوله تعالى: {وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} وبقول النبي: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وقال كثيرون من الشافعية والمالكية والحنفية: تصل، وبه قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد: يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وصوم وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك. ونقل عن جماعة من السلف، ونقل عن الشافعي رحمه الله انتفاع الميت بالقراءة على قبره، وسيأتي في قراءة الشافعي عند قبر الليث ما يدل عليه.
واختار شيخنا شهاب الدين عقيل رحمه الله وصول ثواب القراءة للميت، وكنا نزور معه جماعة موتى من الصالحين بالقراءة، منهم الصحابي عقبة بن عامر، وسيدي إسماعيل المزني، والقاضي بكار،
والإمام الشافعي، وسيدي أبو العباس الحرار، وسيدي الليث بن سعد، وصح واشتهر وتواتر أن الشافعي رحمه الله أثنى عليه خيراً متزايداً، وذكر أنه كان أفقه من غيره ممن هو من أكابر السادات العلماء، ولكن أضاعوه أصحابه، وقرأ عنده ختمة، وقال: أرجو أن تدوم القراءة عنده كذلك دائمة لا تنقطع (ويمضي لهم ليلة عظيمة، وربما اجتمع عنده عشرون جوقةٌ أو أكثر من أكابر السادة القراء والمشايخ والصالحين تقبل الله منهم وأثابهم).
ووصول ثواب القراءة إلى الميت قريباً أو أجنبياً هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع.
وقد أفتى القاضي حسين بأن الاستئجار للقراءة على رأس القبر جائز كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن.
ولكن قال الرافعي وتبعه النووي -رحمهما الله تعالى-، عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة كما سبق، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجر أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور بأن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة، أقرب الإجابة وأكثر بركة
والثاني ذكر الشيخ عبد الكريم السالوسي أنه إن نوى القارئ بقرءاته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر فهذا محصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت.
قال النووي في زيادات ((الروضة)): ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقاً وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة وهذا مقصود بنفع الميت.
وقال الرافعي وتبعه النووي رحمهما الله تعالى في كتاب ((الوصية)): الذي يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر، قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين في عود ما يقرأها إلى الميت، وعن القاضي أبي الطيب طريق ثالث وهو أن الميت كالحي الحاضر فيرجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدي الثواب إلى القارئ.
وعبارة ((الروضة)): إذا أهدي الثواب إلى القارئ، انتهى.
وعن القاضي أبي الطيب: الثواب للقارئ والميت كالحاضر فترجى له الرحمة والبركة، وعن السالوسي عبارة أوسع مما تقدم وهي القارئ إن نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم تلحقه إذا جعل ذلك قبل حصوله وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عند القبر، وإن نوى ثم جعل ما حصل من الثواب للميت ينفعه إذ قد جعل من الأجر لغيره والميت يؤجر بدعاء الغير له، وسيأتي أن النووي نقل عن العلماء استحباب قراءة
القرآن عند القبر، وإطلاق أن الدعاء ينفع الميت اعترض عليه بعضهم فقال: هو وغيره موقوف على الإجابة، ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب كما أطلقوا اعتماداً على فضل الله الواسع، وقد أثنى الله تعالى على القائلين: {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوفٌ رحيم}.
قال الرافعي وتبعه النووي -رحمهما الله تعالى-: يستوي في الصدقة والدعاء الوارث، والأجنبي.
قال الشافعي رحمه الله: وفي وسع الله تعالى أن يثيب الله المتصدق أيضاً، وعلى هذا قال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق الصدقة عن أبويه فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئاً.
وذكر صاحب ((العدة)) أنه لو أنبط عيناً، أو حفر نهراً، أو غرس شجراً، أو وقف مصحفاً في حال حياته، أو فعل غير بعد موته يلحق الثواب بالميت.
قال الرافعي والنووي -رحمهما الله تعالى-: وعلم من هذه الأمور إذا صدرت من الحي فهي صدقات جارية ويلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد في الخبر.
وعبارة ((الروضة)) كما صح في الحديث، وإذا فعل غيره عنه بعد موته فقد تصدق عنه، والصدقة عن الميت منفعة ولا ينبغي أن يختص
الحكم وعبارة ((الروضة)) ولا يختص الحكم، بوقف المصحف بل يلحق به كل وقف، وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت، فأنها ضرب من الصدقة، وقد أطلق أبو الحسن العبادي جواز التضحية عن الغير بغير إذنه، وروي فيه حديثاً، لكن في ((التهذيب)) انه لا يجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وعبارة ((الروضة)): بغير إذنه، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به، انتهى.
وروي عن علي أو غيره من الصحابة أنه لا يضحى عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وعن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية.
وقياس الأضحية على قول أبي الحسن العبادي وغيره، جواز إهداء القراءة للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان على غيره صدقة، فهو له هدية صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: (وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقه النبي صلى الله عليه وسلم باثنين ثم غرس على قبر نصفاً وعلى قبر نصفاً وقال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا))، أخرجه البخاري ومسلم قال: وفي ((مسند أبي داوود الطيالسي)): ((فوضع على أحدهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً وقال: ((إنه يهون عليهما ما دام من بللهما شيء))، قال القرطبي: قال علمائنا يستفاد من هذا غرس الأشجار، وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن).
وفي بعض الأحاديث: ((إنهما يسبحان ما دام رطبين))، وقال: القرطبي أيضاً: (استحب العلماء زيارة القبور لأن القراءة والذكر تحفة الميت من زائرة، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما الميت في قبره إلا كالغريق المغوث ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كان أحب إليه من الدنيا وما فيها وإن هدايا الأحياء للأموات دعوة الدعاء والاستغفار)).
وقال النووي رحمه الله: (استحب العلماء قراءة القرآن عند القبر واستأنسوا لذلك بحديث الجريدين وقال: إذا وصل النفع إلى الميت بتسبيحهما حال رطوبتهما، فانتفاع الميت بقراءة القرآن عند قبره أولى) ا. هـ.
فإن قراءة القرآن من إنسان أعظم وأنفع من التسبيح من عود، وقد نفع القرآن بعض من حصل له ضرر في حال الحياة، فالميت كذلك.
قال ابن الرفعة: (الذي دل عليه الخبر بالاستنباط أن بعض القرآن إذا قصد به نفع الميت وتخفيف ما هو فيه، إذ ثبت أن الفاتحة لما قصد بها القارئ نفع الملدوغ نفعته، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ((وما يدريك أنها رقية))، فإذا نفعت الحي بالقصد كان نفع الميت بها أولى، لأن
الميت يقع عنه من العبادات بغير إذنه ما لا يقع عن الحي. نعم يبقى النظر أن ما عدا الفاتحة من القرآن الكريم إذا قرئ وقصد به ذلك هل يلحق به؟
نعم يلحق به، ففي كتاب ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ في أذن مبتلى، فأفاق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما قرأت في أذنه))، قال: قرأت: {أفحسبتم أنما خلقنكم عبثاً} حتى فرغت من آخر السورة، فقال رسول الله: ((لو أن رجلاً قرأ بها على جبل لزال)).
ومثل ذلك ما جاء في القرآن بسورة المعوذتين والإخلاص وغير ذلك، وفي الرقية بالقاتمة دليل على صحة الإجارة والجعالة لينتفع بها الحي فكذلك الميت.
ومما يشهد لنفع الميت بقراءة غيره قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا على موتاكم))، رواه أبو داوود من حديث معقل بن يسار، قال النووي: (إسناده ضعيف فيه مجهولان لكن لم يضعفه أبو داوود) انتهى.
عادة المحدثين في حديث الذي يرويه أبو داوود ولم يضعفه أنه غير ضعيف، قال أبو داوود: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد
بينته وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وكذا بعضها أصح من بعض.
قال بعض المحدثين: الحديث الذي يرويه أبو داود ولم يضعفه يكون تارة صحيحاً وتارة حسناً، وفي كلام ابن الصلاح: (أن ما وجدنا في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من ((الصحيحين)) ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفنا أنه حسن عند أبي داود ومجرد الستر لا يكن الحديث ضعيفاً، بل قد يكون في الحديث مستور والحديث حسن)، كما قاله ابن الصلاح وغيره بشروط ذكرت.
والحديث في (قراءة يس على الموتى) رواه ابن حبان في ((صحيحه)) ورواه ابن ماجه، ورواه النسائي ولفظه: ((اقرؤوا يس عند موتاكم)) وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ولفظه: ((يس ثلث القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر الله فاقرؤوها على موتاكم)).
وأول جماعة من التابعين وصول القراءة للميت بالمحتضر، واستحب بعض العلماء أن يقرأ عليه سورة الرعد، والتأويل خلاف الظاهر، ثم يقال عليه: إذا انتفع المحتضر بقراءة (يس) وليس من سعيه، فالميت كذلك، والميت كالحي الحاضر يسمع كالحي الخاص، كما صح في الحديث خلافاً لمن خالف.
وعن مجالد عن الشعبي وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه أمر
أن يقرأ عند قبره سورة البقرة، وأخرج النسائي وغيره من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مر على المقابر وقرأ: {قل هو الله أحد} إحدى عشر مرة ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر عدد الأموات))، وروي من حديث أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ المؤمن آية الكرسي وجعل ثوابها لأهل القبور أدخل الله في كل قبر من المشرق إلى المغرب أربعين نوراً، ووسع الله عليهم مضاجعهم، وأعطى الله عز وجل القارئ ثواب ستين نبياً، ورفع الله له بكل ميت درجة، وكتب الله له بكل ميت عشر حسنات)).
وفي ((تذكرة)) القرطبي وغيرها قال علي بن موسى: كنا مع أحمد ابن حنبل في جنازة ومحمد بن قدامة يقرأ، فلما دفنا الميت جاء رجل ضرير يقرأ، فقال أحمد: يا هذا! القراءة على القبر بدعة، فلما خرجنا من المقابر، قال محمد بن قدامة لأحمد، يا أبا عبد الله! ما تقول في مبشر بن إسماعيل؟ قال: ثقة، قال: هل كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم،
قال: أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، قال أحمد: فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ.
وفي ((الإحياء)) لحجة الإسلام الإمام الغزالي، و ((العاقبة)) لعبد الحق، قال: أحمد بن محمد المروزي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا دخلتم للمقابر فاقرؤوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين و {قل هو الله أحد} واجعل ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم.
وصحت الأحاديث أن الله تعالى انزل المعوذتين ويقول لها المبرأتان أي يبريان من السحر ومن كل أذى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما فهما رقيتان كالفاتحة.
((وفي العاقبة)) لعبد الحق (قال: حدثني أبو الوليد إسماعيل بن أحمد عرف بابن افرند، وكان هو وأبوه صالحين معروفين، قال لي أبو الوليد: مات أبي رحمه الله فحدثني بعض إخوانه ممن يوثق بحديثه نسيت أنا اسمه قال لي: زرت قبر أبيك فقرأت عليه حزباً من القرآن ثم قلت: يا فلان هذا قد أهديته لك فماذا لي؟ قال فهبت علي نفحة مسك غشيتني وأقامت معي ساعة ثم انصرفت وهو معي فما فارقني إلا وقد مشيت نحو نصف الطريق).
وفي ((تذكرة)) القرطبي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك لتصدق على ميتك بصدقة فيجيء بها ملك من الملائكة في أطباق من نور فيقوم على رأس القبر فينادي يا صاحب القبر القريب أهلك قد أهدوا إليك هذه الهدية فاقبلها، قال: فيدخلها الله في قبره، ويفسح له في مدخله، وينور له فيه، قال: فيقول: جزى الله عني أهلي خيراً الجزاء، قال: فيقول (لزيق) ذلك القبر أنا لم يخلق لي ولد ولا أحد يذكرني بشيء فهو مهموم والآخر يفرح بالصدقة)).
وأما ما رواه الصالحون وأهل الخير في المنام ورؤياهم كلها متواطئة بعدما يقرؤون ويهدون للميت، مما يدل على ثواب القراءة إليهم وانتفاعهم بذلك فكثير لا يخفى، ولقد حكي لي بعض من أثق إليه من أهل الخير أنه مر بقبور فقرأ: {قل هو الله أحد} وأهدى ثوابها لهم فرأى واحداً منهم في المنام وأخبره أن الله غفر له ولسائر القبور، فخصه ثواباً دائماً .. من سورة {قل هو الله أحد} وتقسم الباقون باقيها ببركة {قل هو الله أحد}.
ولا يشترط لفظٌ في وصول الثواب، لفظ هذا، ولا جعل ثوابٍ، بل تكفي النية قبل القراءة وبعدها خلافاً لما نقلناه عن السالوسي في القبلية، نعم، لو فعله لنفسه ثم نوى جعله للقبر لم ينفع القبر، ويكفي القارئ ذكر ثواب ولا يتعين مثل ثواب.
وقال النووي: المختار أن يدعوا بالجعل فيقول: اللهم اجعل ثوابها
واقفاً لفلان، وقال في ((الأذكار)): (الاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان)، وليس ثواب على تقدير المثل بل لو قال: مثل ثواب تكون مثل زائدة كما هو أحد الأقوال: {ليس كمثله شيءٌ} نعم أن قيل: القارئ له ثواب قراءته وللمقروء له مثل ثوابها فيكون ثوابها على تقدير وهو خلافٌ ظاهر مختار النووي وخلاف الأئمة المهدين فأنهم حين يهدون يقولون: اجعل ثواب، والأصل عدم التقدير.
وينقدح في قوله: اجعل ثواب احتمالان: أن يكون للمهدي له وللقارئ مثلها، الثاني: أن يكون للمهدي وهو للقارئ وللمهدي له مثلها.
وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ففيها أجوبة في مذهب من قال بوصول القراءة للميت.
أحدها: منسوخة، روي ذلك عن ابن عباس، نسخه قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} فجعل الولد
الطفل في ميزان أبيه ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الاباء بدليل قوله تعالى: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً}.
الثاني: أنها مخصوصة بالكافر، والمؤمن له ما سعى غيره، قال القرطبي: (وكثير من الأحاديث تدل على هذا القول وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره)، وفي ((الصحيح)) عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: للذي حج عن غيره: ((حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)) وروي عن عائشة رضي الله عنها: ((أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه))، وقال سعد للنبي: إن أمي توفيت أفأ تصدق عنها؟ قال: ((نعم)) قال: فأي الصدقة أفضل، قال: ((سقي الماء)). وفي الموطأ عن أبي بكر عن أخته أنها حدثته عن جدته ((أنها جعلت على نفسها مشياً إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله ابن عباس أبيها أن يمشي عنها)).
قال القرطبي: (ويحتمل أن يكون قول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان ما سعى} خاصة بالسنة بدليل ما في ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها (كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء)، فإن عملها سيئة واحدة)) انتهى.
وفي حديث: ((وإذا هم بسيئة ولم يعملها كتبتها له حسنة)). وكنت بحثت مع شيخي سراج الدين البلقيني رحمه الله تعالى -بالخشابية بجامع عمرو بن العاص-، هل تضعف هذه الحسنة أيضاً؟ فقلت ينبغي أن تضعف لقوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}، فقال: نعم وتضعف من جنس ما هم.
ومن المفسرين من قال: الإنسان في الآية أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط، ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب وأسدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابها له بعد موته من سعيه، وهذا أحسن. ومنهم من قال: اللام بمعنى على، نظير: {وان أسأتم فلها} أي عليها، ونظير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة: ((خذيها واشترطي لهم الولاء)) في أحد الأجوبة، ومنهم من قال: الإنسان في الآية للحي دون الميت، ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له وإنما نفى عمله بسعي غيره، وبين الأمرين فرق.
وقال الزمخشري في: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.
(فإن قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه، قلت: فيه جواب:
أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً مصدقاً كذلك كان سعي غيره كأنه سعى بنفسه لكونه تبعاً له وقائماً لقيامه.
والثاني: ان سعي غيره لا ينفعه إذا عمل لنفسه ولكن إذا نواه فهو حكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه) اهـ.
والصحيح من الأجوبة أن {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} مخصوص
لما تقدم من الآية وكذا: {فاليوم لا تجزون إلا ما كنتم تعملون} وكذا: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)).
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم دائماً أبداً إلى يوم الدين، آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق