بعض أقوال العلماء في الاحتفال بالمولد النبوي
رأي ابن الحاج رحمه الله في الاحتفال
من المعروف أن ابن الحاج في مدخله كان من أشد الناس حربًا على البدع، ولقد اشتد رحمه الله بمناسبة الكلام عن المولد على ما أحدثوه فيه من أعمال لا تجوز شرعًا من مثل استعمال لآلات الطرب، ثم قال: فآلة الطرب والسماع أي نسبة بينهما وبين تعظيم هذا الشهر الكريم الذي من الله تعالى علينا فيه بسيد الأولين والآخرين. فكان يجب أن يزاد فيه من العبادات والخير، شكرًا للمولى سبحانه وتعالى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة، وإن كان النبي ﷺ لم يزد فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات، وما ذاك إلا لرحمته ﷺ بأمته ورفقه بهم، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يترك العمل خشية أن يفرض على أمته رحمة منه بهم، كما وصفه المولى سبحانه وتعالى في كتابه حيث قال: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
لكن أشار عليه الصلاة والسلام إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله عليه الصلاة والسلام للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ذلك يوم ولدت فيه)[1] فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي ولد فيه.فينبغي أن نحترمه حق الاحترام، ونفضله بما فضل الله به الأشهر الفاضلة، وهذا منها لقوله عليه الصلاة والسلام: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر” ولقوله عليه الصلاة والسلام: “آدم ومن دونه تحت لوائي”[2]. وفضيلة الأزمنة والأمكنة تكون بما خصها الله تعالى به من العبادات التي تفعل فيها لما قد علم أن الأمكنة والأزمنة لا تتشرف لذاتها، وإنما يحصل لها الشرف بما خصت به من المعاني.
فانظر رحمنا الله وإياك إلى ما خص الله تعالى به هذا الشهر الشريف ويوم الاثنين، ألا ترى أوم هذا اليوم فيه فضل عظيم، لأنه ﷺ ولد فيه، فعلى هذا ينبغي إذا دخل هذا الشهر الكريم أن يكرم ويعظم ويحترم الاحترام اللائق به وذلك بالاتباع له ﷺ في كونه عليه الصلاة والسلام كان يخص الأوقات الفاضلة بزيادة فعل البر فيها وكثرة الخيرات.
ألا ترى إلى ما رواه البخاري رحمه الله تعالى: “كان النبي ﷺ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان[3] فنتمثل تعظيم الأوقات الفاضلة بما امتثله عليه الصلاة والسلام على قدر استطاعتنا.
رأي ابن تيمية رحمه الله في الاحتفال
اختار ابن تيمية مذهب التفصيل في قضية المولد ومن كلامه في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم“، فقال:
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي وتعظيمًا له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع، وأكثر هؤلاء الناس الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن المقصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه.واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضًا شر من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل شرًا بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية، كحال المنافقين والفاسقين.
فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله ﷺ أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن أحد الأمراء أنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال.
رأي السيوطي رحمه الله في الاحتفال
وللسيوطي في كتابه “الحاوي للفتاوى” رسالة مطولة أسماها: “حسن المقصد في عمل المولد” وهذه بعض فقراتها: عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي ﷺ وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيها من تعظيم قدر النبي ﷺ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابًا أو سنة، أو أثرًا أو إجماعًا فهذه البدعة الضلالة.
الثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة، وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه، يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى هذا آخر كلام الشافعي.
والمولد وما يكون فيه من طعام من الإحسان الذي لم يعهد في العصر الأول، فإن إطعام الطعام الخالي عن اقتراف الآثام إحسان فهو من البدع المندوبة كما في عبارة ابن عبد السلام.
رأي ابن حجر في الاحتفال
وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل أحمد بن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه:
أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا، قال:
وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: “يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى” فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعم، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة.
والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله.
وأما ما يعمل فيه: فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهد المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخر، وأما ما تبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال ما كان من ذلك مباحًا، بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم ولا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنعه وكذا ما كان خلفًا الأولى. انتهى.
قال السيوطي تعليقًا على كلام ابن حجر: ـ (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي ﷺ عق عن نفسه بعد النبوة[4]، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع يوم لولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي ﷺ إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق