الأصل السادس عشر
العرف الخاطئ لا يغير حقائق الألفاظ
الشرعية
"والعرف
الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود
بها والوقوف عندها كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين
فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء".
هذا
الأصل يعالج:
1-العرف الخاطئ.
2-والخداع اللفظي.
3-ومنع التحيُّل،
وأيضًا الحيلة في إصدار أو استنباط الحكم.
4- العبرة بالمسميات
لا بالأسماء.
قبل أن نتكلم عن هذا
الأصل نود أن نقول إن المولى I ما خلق الإنسان عبثاً وما تركه سداً ولكن
خلقه لرسالة في هذا الوجود الذي نعيش فيه قال تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وعندما سألت الملائكة
ربها I
(قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ولكي يعمر هذا المخلوق
الكون أمدّه المولي I بإمكانات يستطيع بها أن يتلمس طريقه الذي
يسير فيه فمنذ اليوم الذي خلق المولى I فيه آدم وخلق له أبناءه حدد له الطريق الذي
يسير فيه وقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ
فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) ووهب المولى لهذا الإنسان الذي سيقوم
برسالته عقلاً يفكر به ومنحه نداءين، نداء داخلي ونداء خارجي يستشعر به الحل من
الحرمة وما يرضي المولى I وما يغضبه، هذا النداء الداخلي هو الفطرة (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا) فلو تركنا الناس لفطرهم لألهمهم الله I
السداد والرشاد والصواب ولكن الإنسان كثيراً ما يلوث هذه الفطرة ويلحق بها ما ليس
منها. ويصحبه الشيطان ويجري منه مجرى الدم ويزين له ويغويه ويوسوس له ولذلك عندما
قال الشيطان لآدم (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) اغتر آدم عليه السلام بهذا
الكلام وبدأت الفطرة يصيبها شيء يجعلها تنزع بعيداً عن الصواب (فَأَكَلَا مِنْهَا) فابتعدت عن هذا
الإحساس الرباني وأمر الله I بالرغم من تحذير المولى له وأمره بأن لا
يقرب الشجرة بعينها وقال (وَكُلاَ مِنْهَا
رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) ولما
شعر آدم u
بخطئه قال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ) وهذه القصة بينت لنا طبيعة النفس الإنسانية التى قال
عنها ربنا: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا،
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّاهَا) فالفلاح دائماً في تزكية هذه النفس لأنها كالبذرة
تحتاج إلى رعاية وعناية وإلا فسدت وطغت وأهلكت صاحبها.
أما النداء الثاني
نداء الشريعة وهي أوامر الله I التي تتنزل على الرسل ويبلغونها لأقوامهم
وهم في نفس الوقت نماذج في طاعة الله I طاعة مطلقة والجدير بالذكر أن الرسالات
السماوية في بدايتها كانت تشريعات محددة وكان الناس ينزعون بفطرهم إلى صواب
الأعمال لأن هذه الفطر لم تكن قد لُوثت من قبل ومن هنا انتشرت الأعراف بين الناس
وفى هذه الفترة لم يكتمل الأمر بعد فكان الناس يتحاكمون إلى القدر المنزل وفى نفس
الوقت يرجعون في أحكامهم إلى العادات والتقاليد والأعراف التى تحكم سيرهم.
الفرق بين الشرائع الوضعية
والسماوية:
قبل أن نتعرف على المعنى الفقهي والشرعي
للعرف يجدر بنا أن نذكر أهم الفروق الأساسية بين الشرائع الوضعية والسماوية فهناك
شرائع وضعية وضعها البشر تحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وفيما ينظم حياتهم كما
أن هناك شرائع سماوية نزلت من عند الله وحياً وهي الحاسمة في سلوك الناس ويجب
الرجوع إليها والاحتكام بها ولذا يجدر بنا أن نشير أولاً إلى هذه الشرائع الأرضية
ومما تتكون:
الشرائع
الوضعية –القوانين- في المجتمعات البشرية التي يسمونها المجتمعات البدائية كانت
تتكون تدريجياً من صور العادات والأعراف في هذا المجتمع، ولما ارتفعت حياة الأمة
وزادت مداركها بدأت بعض هذه الأعراف تقنن وتصير قانونًا يحكم المجتمع فانتقلت من
شيوع العرف إلى تقنينه ليصبح قانون له السلطة الحاكمة على هذا المجتمع نفسه بتقنين
العادات والتقاليد كنظام آمر يحكم هذا المجتمع البدائي.
ثم
ارتقى التشريع نفسه في المجتمع فكلما نضج هذا المجتمع وازداد علماً وضعت له الأسس
القانونية التي تحكمه وتحكم سلوكه في هذا المجتمع نفسه حتى أصبح العرف قانونًا
حاكمًا يحكم وبذا أصبحت الأعراف نفسها قوانين ثابتة في داخل المجتمع نفسه، فإذا
سُن قانون وضعي وضع هذه الأعراف في اعتباره بشرط أن تكون هذه أعرافًا حسنة
ومعتبرة، أعرافًا جيدة يقرها الجميع لأنه يستبعد العادات والأعراف الفاسدة.
فالشرع بوجه عام في أمة من الأمم ليس إلا
صورة صحيحة لحياة المجتمع، للحياة الاجتماعية، فهدف هذا القانون إقامة العدل، وحفظ
التوازن بين الحقوق والواجبات، وصيانة حقوق الناس بوجه عام، حتى لا يعتدي أحد على
أحد وهذه القواعد إما أن تكون وقتية غير صالحة للخلود إذا كانت تعبر عن أوضاع
خاصة، أو أن تكون صالحة للخلود لها صفة الاستمرار والدوام والسمو.
وليس اختلاف الشرائع بين الأمم إلا تعبيراً عن
الاختلاف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية وفى الأهداف التي تتجه إليها أو نحوها
هذه الحياة والمُثُل العليا التي تستنتجها الأمة من عقيدتها وهذه كلها أمورٌ تتصل
بالقوانين الوضعية، فضلاً عن الأعراف التي يقرها القانون؛ لأنها لا تصطدم بخلق أو
قيمة من القيم أو حتى بدين من الأديان، ويستبعد دائماً من القوانين ما يصطدم
بعادات وأعراف الناس في هذا المجتمع نفسه ومن هنا كان التشريع الوضعي بوجه عام له ثلاث وظائف: وظيفة علاجية،
ووظيفة وقائية، ووظيفة توجيهية وفى الأمر تفصيل يرجع إليه في مكانه.
أما الشرائع السماوية
فنجدها ثلاث أنوع:
-النوع الأول: يأتي
للتقويم الأخلاقي وتصفية النفوس ودعم الفضيلة ويركز على الجانب الأخلاقي والسلوكي
وليس له نظام قانوني، وهذا الذي اشتهرت به الديانة المسيحية.
-النوع الثاني:
يتضمن نظاماً قانونياً خاصاً ببيئة أو قوم معينين كالشريعة اليهودية الخاصة
باليهود وكانت هذه الشرائع تتناسب مع الظرف الزماني والمكاني الذي كانوا فيه.
-النوع
الثالث: يتضمن نظامًا قانونيًا مؤسساً على الشمول والعموم والدوام والسمو
والكمال وهو نظام "يُصلِح الزمان والمكان" وهى الشريعة التي جاء
بها محمد r
فقد جاءت إصلاحية لأهداف ثلاثة:
1-تحرير
العقل من رق التقليد والخرافات.
2-إصلاح
الفرد نفسياً وخلقياً وتوجيهه للخير.
3-إصلاح
المجتمع أي الحياة الاجتماعية الذي يسود فيها العدل والأمن والحرية والكرامة.
ومصادر
التشريع للنوع الثالث هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهي المصادر الأساسية
التي اتفق عليها الفقهاء وإن اختلفوا في القياس كمصدر أساسي، وهناك مصادر أخرى
فرعية منها الاستحسان والمصالح المرسلة ورأى الصحابي والعرف الذي نحن بصدده وبذلك
أصبح العرف مصدرًا من مصادر التشريع.
ما هو العرف؟
العرف لغة: بمعنى الشيء المعروف المألوف المستحسن
الذي تتلقاه العقول السليمة بالقبول وعليه قول ربنا (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
والأعراف
منها الحسن ومنها القبيح إذ ليس كل ما يعتاد الناس ويتعارفونه ناشئاً عن حاجة
صادقة ومصلحة حكيمة يكون الأمر المعتاد وسيلة ميسرة لها.
فقد يعتاد الناس
عادات تقوم على جهالات وضلالات موروثة يشقى بها المجتمع وليس فيها ما ينفع
كاسترقاق المدين المعسر عند الرومان، وفى جاهلية العرب كوأد البنات وكدفن الزوجة
حية مع زوجها إذا مات عند الهنود الوثنيين، وكدفن نفائس الأموال مع أصحابها الموتى
عند قدماء المصريين، فكل هذا وأمثاله عادات وأعراف قبيحة يجب أن تكافح بالتعليم
والتشريع وما أكثر الأعراف القبيحة في زماننا هذا فهي لا تعد ولا تحصى مثل عدم
توريث المرأة وتوزيع الميراث على الرجال، وهذه الأمور كلها لم يعترف بها الإسلام
كأعراف وحين جاء الرسول r أصبحت هذه كلها أعراف غير معتبرة تماماً،
وقد نقل الإسلام الأعراف إلى معاني ترتبط بالقيم والمبادئ ونحن نعلم أن هناك قولاً
كان يردده الناس في الجاهلية وهو: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"
وكانوا يطبقون هذا الكلام بلفظه ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، وهذا الأمر مازال
موجوداً حتى الآن في بعض القبائل والعائلات، وعندما قال الرسول r:
"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قال الصحابي يا رسول الله ننصره
مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال "تكفه عن ظلمه" فصحح r
العرف الجاهلي الخاطئ إلى سلوك محمود ذو قيمة أخلاقية كما يقص علينا التاريخ
والسيرة أنهم كانوا إذا سرق الغني تركوه وإذا سرق الفقير أقاموا عليه الحد وهذا
عرفٌ جائر ظالم ولما جاء الإسلام وسطع نوره وبدد ظلمات الجاهلية منع هذه الأعراف
ولم يعتد بها بالكلية.
العرف اصطلاحاً:
أما في الاصطلاح الفقهي فهو عادة جمهور قوم في قول أو عمل.
ويفهم
من هذا التعريف أنه لا يتحقق هذا العرف في أمر من الأمور إلا إذا كان مطرداً بين
الناس في المكان الجاري فيه أو غالباً بحيث يكون معظم أهل هذا العرف كل منهم يرعاه
ويجري على وفقه كتعارف الناس مثلاً في الشام أن المهر الذي يسمى للمرأة في عقد
النكاح يكون ثلثاه معجلاً وثلثه مؤجلاً.
ولذا
يجب أن يتحقق في تكوين العرف اعتياداً مشتركًا بين الجمهور وهذا لا يكون إلا في
حالة الاطراد أو الغلبة على الأقل وإلا كان تصرفاً فردياً لا عرفاً بين الناس .
شأن العرف بين مصادر الأحكام: في الحياة
الاجتماعية التي لدى الأفراد الذين لا شريعة عندهم تكون الأعراف والعادات هي
الشريعة التي يحتكم إليها ولما كانت بعض الأعراف قد تكون في ذاتها حسنة عادلة أو
قبيحة جائرة كان من الطبيعي أن تأتي الشرائع لتقر العرف الحسن وتنهى عن القبيح.
والجدير
بالذكر أن علماء القانون الوضعي يعتبرون مصادرهم خمسة: العرف والدين وآراء الفقهاء
وشراح القوانين واجتهاد القضاء أي أحكام
المحاكم وقواعد العدل والإنصاف.
ولذلك فإن العرف
والعادات كانا مصدراً من أهم المصادر للقوانين الوضعية فيستمد منها واضعوها كثيراً
من الأحكام المتعارفة ويبرزونها في صورة نصوص قانونية، ونلاحظ أن للأحكام التي
تستمد من قواعد العرف ميزتين:
الأولى: أن
الناس يكونون على علم سابق بها في معاملاتهم فيقل اختلافهم لأن جهل الناس بالأحكام
يولد المشكلات بينهم أما حين يكون مستمدًا من العرف يتقبلوه بسهولة.
الثانية:
أن تلك الأحكام تكون مألوفة مستساغة ومقبولة لأنهم اعتادوها قبل أن تصبح قانوناً.
ولقد
جاءت الشريعة الإسلامية فأقرت كثيراً من التصرفات والحقوق المتعارفة بين العرب
والإسلام وهذبت كثيراً من الأعراف ونهت عن كثير فكانوا يقولون:"انصر أخاك
ظالمًا أو مظلومًا" فجاء الإسلام وصحح هذا المفهوم كما أتت بأحكام جديدة
استوعبت بها تنظيم الحقوق والالتزامات بين الناس في حياتهم الاجتماعية على أساس
وفاء الحاجة والمصلحة والتوجيه إلى أفضل الحلول والنظم، لأن الشرائع الإلهية إنما
تبغي بأحكامها المدنية تنظيم مصالح البشر وحقوقهم فتقر من متعارف الناس ما تراه
لغايتها ملائمًا لأسسها وأساليبها.
أهم القواعد الفقهية في العرف هي:
1-العادة محكمة : أى أن العرف يصبح حاكماً في إثبات
الأحكام الشرعية والالتزامات بين الناس على وفقه ويلزمهم بها قضاء.
2-الحقيقة تترك بدلالة العادة ، والحقيقة هنا يراد
بها المعنى الأصلي للفظ فى مقابل المعنى المجازي أى أن ألفاظ الناس في أقوالهم
وتصرفاتهم تحمل على معانيها المتعارفة بينهم لا على معانيها الحقيقية في أصل
اللغة.
3-المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
4-لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
5-استعمال الناس حجة يجب العمل بها
العرف في الفقه الإسلامي: وللعرف في الفقه
الإسلامي اعتبار شرعي والاجتهادات الفقهية في الإسلام متفقة على هذا الاعتبار
للعرف وإن كان بينها شيء من التفاوت في حدوده ومداه.
وهو–أي
العرف– في نظر بعض الفقهاء دليل شرعي كاف في ثبوت بعض الأحكام الإلزامية
والالتزامات التفصيلية بين الناس حيثما لا دليل سواه أما إذا عارض العرف نصاً
تشريعياً آمراً بخلاف الأمر المتعارف ففي اعتبار العرف وعدمه وفي محل الاعتبار
ودرجته تفصيل لا يتسع له المقام.
وغني
عن البيان أن ما بُني من الأحكام على العرف يتبدل بتبدل العرف ولذا وضعت القاعدة
"لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان" ولكن متى يكون للعرف هذا السلطان؟
شرائط اعتبار العرف: لكي يكون للعرف
سلطانًا يجب أن تتوافر فيه شرائط:
1-أن
يكون العرف مطرداً غالباً –كما ذكرنا.
2-ألا
يعارض العرف نصًا شرعيًا أو أصلاً قطعيًا في الشريعة يكون العمل بالعرف تعطيلاً
له.
فالنصوص
التشريعية يجب أن تفهم بحسب مدلولاتها اللغوية والعرفية في عصر صدور النص لأنها هي
مراد الشارع ولا عبرة لتبديل الألفاظ في الأعراف الزمنية المتأخرة وإلا لم يستقر
للنص التشريعي معنى.
فمثلاً لفظ (في سبيل
الله ) في آية مصارف الزكاة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء
وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي
الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) له معنى
عرفي إذ ذاك وهو مصالح الجهاد الشرعي، أو سبل الخيرات مطلقاً على اختلاف بين
العلماء في ذلك، ولفظ (ابن السبيل) معناه العرفي هو من ينقطع من الناس في السفر
فإذا تبدل عرف الناس، فأصبح مثلاً يعني (في سبيل الله ) طلب العلم خاصة (وابن
السبيل) الطفل اللقيط الذي لا يُعرف له أهل فإن النص التشريعي يظل محمولاً على
المعنى العرفي الأول عند صدوره ومعمولاً به في حدود ذلك المعنى لأنه هو مراد
الشارح ولا عبرة للمعاني العرفية أو الاصطلاحات الحادثة بعد ورود النص.
هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى فإن العرف إذا كان مخالفًا لبعض الأدلة الشرعية من نصوص الشريعة أو من
قواعدها وأحوالها فالمبدأ العام الذي يستخلص من أقوال الفقهاء الباحثين إجمالاً هو
أنه إذا ترتب على العمل بالعرف تعطيل لنص شرعي أو أصل قطعي في الشريعة لم يكن
عندئذ للعرف اعتبار لأن نص الشارع مقدم على العرف.
وأما إذا لم يترتب
على العرف هذا التعطيل بل كان مما يمكن تنزيل النص الشرعي عليه أو التوفيق بينهما
فالعرف عندئذ معتبر وله سلطان محترم فمثلاً عرف التبني في الجاهلية لا اعتبار له
لاصطدامه بنص قرآني (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ...) وكذلك
الخمر والربا، وزواج الشغار[1]
وكل ما كان عرفًا سائدًا عند العرب وجاء القرآن بمنعه.
تقسيم العرف:
العرف إما أن يتعلق باستعمال بعض الألفاظ في معان بتعارف الناس على استعمالها
فيها، وإما أن يتعلق باعتياد أنواع من الأعمال أو المعاملات.
ومن هنا انقسم العرف
من حيث موضوعه ومتعلقه إلى نوعين:
1-عرف لفظي.
2-عرف عملي.
ومن جهة أخرى فقد
يكون العرف موضوعه عامًا فاشيًا في جميع البلدان بين جميع الناس من أرباب الأعمال
أو الصنائع أو العلوم دون سواهم وهو من هذه الناحية ينقسم إلى نوعين أيضًا:
1-عرف عام.
2-عرف خاص.
والذي يهمنا هو العرف
اللفظى الذي أشار إليه الإمام البنا.
العرف اللفظي:
النظر الفقهي في حكم هذا العرف ومدى سلطانه إن كل متكلم يحمل كلامه على لغته
وعُرفُه فينصرف إلى المعاني المقصودة بالعرف حين التكلم وإن خالفت المعاني
الحقيقية التي وضع لها اللفظ في أصل اللغة ذلك لأن العرف الطارئ قد نقل تلك
الألفاظ إلى معان أخرى صارت هي الحقيقة العرفية المقصودة باللفظ في مقابل الحقيقة
اللغوية.
ولذلك
أعيد على مسامعك ما قاله الإمام البنا ليتضح لك المقصود، يقول رحمه الله :
"والعرف الخاطئ لا يغير من حقائق الألفاظ الشرعية بل يجب التأكد من حدود
المعاني المقصود بها والوقوف عندها كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي
الدنيا والدين فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء"
العبرة بالمسميات لا
بالأسماء:
ولذلك وجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين -كما قال الإمام
البنا – ذلك لأن من الخطورة بمكان أن تعوَّد أعداء الإسلام أن يستخدموا مصطلحات
يزرعونها ويشيعونها بين الناس حتى تصبح أعرافًا بينهم وهي مصطلحات خادعة براقة
مهلكة يخدعون بها المسلمين باستخدام ألفاظ غير مقبولة بل منهي عنها –في اللغة-
معنى حسن، بينما معناها في الشرع مرفوض غير مقبول بل منهي عنه وإليك أمثله على
ذلك.
المشروبات الروحية
معناها اللغوي غير معناها المقصود لديهم وهي الخمور بأنواعها، أو ما يطلقون عليه
الفن الرفيع وهو فن رخيص مبتذل يثير الغرائز في الإنسان ويبعده عن الله تعالى،
فماذا لو سميت الأقرع "أبو شعر" فهل هذا الاسم يغير من حقيقته
أنه أقرع وكذلك لو سميت الأعمى "أبو العيون" والمكسَّح "أبو
سريع" لا يغير ذلك من المسميات شيئًا.
وقس على ذلك الكثير:
الفائدة ويقصدون
الربا، واليانصيب الخيري ويقصد به الميسر، القيم الروحية ويقصدون وحدة الأديان
سواء كانت سماوية أو وضعية ليتميع الإسلام، الروح الجامعية ويقصد بها اختلاط
الرجال بالنساء، العمولة ويقصد بها الرشوة في الغالب الأعم. التطرف ويقصد به
التمسك بالإسلام، التقدم والحضارة ويقصد بهما أهل الغرب والشرق اللا ديني
والعلمانية وترك منهج الله، وفي هذه الأيام كثرت المصطلحات الخبيثة والمنحرفة بقصد
تضليل المسلمين بل الناس أجمعين فمثلاً يُطلقون مصطلح زواج المثلية ويُقصد به فعل
قوم لوط وانتشار الفاحشة، وهكذا ولذلك قال العلماء لو صرف كلام المتكلم إلى حقيقته
اللغوية دون العرفية التي هي معناه في عرف المتكلم لترتب عليه إلزام المتكلم في
عقوده وإقراره وحلفه وسائر تصرفاته القولية بما لا يعنيه هو ولا يفهمه الناس من
كلامه.
وقد استمد العلماء
القواعد الفقهية في الأعراف والتي أشرنا إليها من قبل كالعادة محكَّمة، والمعروف
عرفاً كالمشروط شرطاً، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وغير ذلك من القواعد
التي ذكرناها وهناك بعض الأمور التي تفرعت من هذه القواعد منها على سبيل المثال
تقسيم المهر إلى معجَّل ومؤجَّل إذا لم يبين في العقد يُرجع للعرف، فهذا أمر راجع
للأعراف نفسها فالأصل أن المهر يدفع كله مقدماً وجرت العادات على تقسيمه وهذا لا
يصطدم بنص ولا يخالف الشرع فهذا التقسيم يرجع للأعراف فلا بأس به ولا شيء فيه
وتكون العادة هنا محكَّمة.
أيضًا تقسيم ثمن
البيع إذا لم يصرح به في التعاقد لا شيء فيه إذا كان راجعًا إلى العادات والتقاليد
والأعراف في المجتمع، وأيضًا العيوب التي وجدت في السلعة نفسها هل تفسخ العقد أم
لا؟ هذا يرجع أيضًا للأعراف نفسها، وكيفية حفظ الوديعة والاتفاق على حفظها هذا
أمرٌ حكم التقصير فيه يرجع إلى الأعراف الموجودة بين الناس إن كان مقصراً أو غير
مقصر، كل هذه الأمور تعود إلى الأعراف ولهذا المعنى الذي قال فيه ابن مسعود
"ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".
أيضًا وضع الفقهاء المبدأ
العام القائل " يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته
وعرفه وإن خالف لغة العرب ولغة الشارع" يُحمل الكلام على نفس المعنى الذي
عنده هو.
مثلاً: لو
حلف الإنسان أن لا يضع قدمه في دار فلان، انصرفت اليمين إلى معنى دخول الدار لأنه
المعنى العرفي لا إلى مجرد وضع القدم الذي هو الحقيقة اللغوية فلو دخلها راكبًا
دون أن تمس قدمه أرضها يحنث في يمينه شرعًا وتجب عليه الكفارة، ولو مد رجله من
خارجها فوضعها فيها دون أن يدخل لا يحنث.
مثال آخر:
إذا تعارف الناس على إيقاع الطلاق بلفظ "أنت طالق "، أو الظهار "
أنت عليَّ كظهر أمي" بألفاظ وتعابير جديدة فشى استعمالها بينهم فإنها يقع بها
الطلاق، ولو كانت في أصل اللغة لا تقتضي الوقوع كلفظ "عليّ الطلاق"
الذي يستعمله الرجال في هذا الزمان عند إرادة التطليق مع أن الطلاق وصف يقع على
المرأة التي هي محله شرعًا لا الرجل.
ويتضح من ذلك أن
العرف اللفظي بوجه عام تنشأ به لغة جديدة تكون هي المعتبرة في تنزيل كلام الناس
عليها، وتحديد ما يترتب على تصرفاتهم القولية من حقوق وواجبات بحسب المعاني
العرفية، وبالنسبة للغة العامية يحمل كلام الناس فيها على معناه المتعارف عليه
بينهم – فالعبرة بالمسميات لا الأسماء- وقد يختلف المعنى من بلد عن آخر، فمثلاً
في اليمن المال يسمى "زلط" فإذا أقسم إنسان وقال "والله لابد
أن تأخذ الزلط" أو يحكم بين اثنين ويقول من حقك :" أن تأخذ الزلط"،
فالزلط عندنا هو الزلط المعروف –نوع من الحجارة- أما عندهم فيعني المال فيحمل
الكلام على معناه العرفي عند الحالف أو الناذر أو الذي يحكم بحكم وهذه كلها واضحة
جداً لدى بعض القبائل التي لها ألفاظ وكلمات تختلف اختلاف كلي وجزئي عما نفهمه نحن
ولذا يُصرف على مفهوم اللفظ عند القوم، ولكل مكان عرفه الخاص في التخاطب فيجب أن
تنضبط الأعراف بضوابط الشرع الحكيم.
منع التحيُّل:
بعض الناس تشيع بينهم أعراف ظاهرها يبدو وكأنه عمل مشروع ولكن في الحقيقة يقصد به
إسقاط واجب أو ارتكاب الحرام ليكون حلالاً في الظاهر أمام الناس أو المستمع إليه.
وإليك بعض الأمثلة
أيضًا ليزداد الأمر وضوحًا بها:
1-البيع مثلاً له
مقاصد ومصالح هي حاجة المشتري إلى السلعة وحاجة البائع إلى الثمن فإذا باع شخص
سلعة بعشرة قروش إلى أجل ثم اشتراها نفس البائع قبل الأجل بخمسة نقدًا، هذا البيع
يحقق مفسدة وقد استخدم الخداع اللفظي فيه بكلمة البيع بينما الحقيقة هي الإقراض
بالربا بينما يراد من هذا البيع التحايل وهو عين الحرام
2-الهبة مشروعة لما
لها من مقاصد كريمة، ولكن إذا وهب شخص ماله في آخر الحول هربًا من الزكاة فإن
الهبة في هذه الحالة لا تحمل إلا اسمها لأنها لم تحقق الغرض منها ولكن مآل هذه
الهبة المنع من الزكاة وهي مفسدة إن قصد بها ذلك.
3-عقد الزواج ينعقد
بالألفاظ –الإيجاب والقبول – وهي الصيغة، والألفاظ وهي المعبرة عن الرضا، ولكن إذا
قصد بالألفاظ غير ما وضعت له فإن الرضا بالعقد يكون منعدمًا، وعلى ذلك فإن المحلل
يقول نفس الألفاظ بعينها ولكن الألفاظ في هذه الحالة لا تكون سببًا لترتب الآثار
إلا إذا كان القصد منها معناها وموجبها فلفظ النكاح لم يوضع ليحلل مطلقة وإنما هو
لدوام العشرة وحفظ النسل وغير ذلك من المقاصد الكريمة.
وعلى ذلك إذا كان
ظاهر الفعل موافقاً للشرع والمصلحة مخالفة له فالفعل غير صحيح وغير مشروع، لأن
الأعمال الشرعية ليست لذاتها وإنما قصد بها أمور هي المعاني والمقاصد التي شرعت
لها فالألفاظ لا عبرة بها إذا لم توافق المعاني الشرعية التي قصدها الشارع.
وهكذا يطهر باطنه
وتصحح نيته ويتقبل الله قوله حتى ولو خالف المعنى الذي يقصده –دون قصد – كالذي كاد
أن يهلك في الصحراء بعد أن فقد راحلته فلما وجدها فإذا به من شدة فرحه يقول
:"اللهم أنت عبدي وأنا ربك" – من سعادته الغامرة- وهو يقصد أن يقول
"اللهم أنت ربي وأنا عبدك" فالعبرة بالمقاصد وعلى المسلم أن يطهر قوله
كما يطهر فعله حتى يصبح ظاهره كباطنه ويستشعر قول الله (مَا يَلْفِظُ مِن
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
[1] هو
أن يتفق شخصان فيزوّج كل منهما الآخر قرينته فتكون كمهر للأخرى، وبعضهم إذا ماتت
إحدى المرأتين يستعيد زوجها قرينته من عند الآخر حتى يزوجه امرأة أخرى بدلاً من
التي ماتت فكأنه ضامن لحياتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق