المداخلة، أو التيار المدخلي، هو تنظيم ديني/سياسي مُوازٍ، أنشأته وزارة الداخلية السعودية ومخابراتها، ليكون "أداة دعوية دعائية" في مواجهة ما عرف سعوديا بـ"تيار الصحوة" أو "التيار الصحوي"، الذي ظهر وازدهر في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين المنصرم، وتميز بدعوته إلى الإصلاح السياسي، وبنقده أو "نصحه" للحكام في السعودية. والتيار "المدخلي" منسوب إلى شيخه وزعيمه الأبرز ربيع بن هادي المدخلي.
وأكثر ما عُرف به وتميز به هذا التيار هو قيامه بمهمة مزدوجة، تتمثل أولا في إلحاحه الدائم على الطاعة المطلقة العمياء لولاة الأمور، وخاصةً في حال كونهم ظالمين وفاسدين وخائنين... وتتمثل ثانيا في حربه الشعواء ضد الحركات الإسلامية، والشخصيات الإسلامية، ذات الاستقلالية الفكرية والسياسية.
جديد هذا التيار هو خروج أحد رموزه، وهو المدعو "الشيخ" عبد العزيز الريس، بفتوى غريبة جديدة، تحرم نقد ولاة الأمور أو الإنكار عليهم، حتى ولو قاموا بشرب الخمر وبالفاحشة على الملأ، وحتى لو فعلوا على التلفزيون.
وهذا ما يجعلهم جديرين بلقب جديد، هو أنهم دعاة تقديس ولاة الخمور، وليس فقط تقديس ولاة الأمور.
تفسير حديث: وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك؟
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إنا كن ابِشرٍّ، فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم»، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم»، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم»،قلت: كيف؟قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولايستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، قال: قلت: كيف أصنع يارسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع"
الشطر الأخير من هذا الحديث: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع» هو عمدةُ المداخلة وشعارُهم في دعوتهم إلى الطاعة البدعية للظالمين المعتدين، من ولاة الأمور ومن ولاة الخمور والفجور.
سلك ابن حزم في تأويل هذه الجملة من الحديث مسلكًا آخر
فقال في الفصل في الملل والأهواء والنحل: أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر, فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له, وإن امتنع من ذلك, بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى, وإما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان},
وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى، قال الله عز وجل: {وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل, ولا اختلاف فيه, ولا تعارض, ولا تناقض، فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه, يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق, وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم" فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمُسْلِم ماله للأخذ ظلمًا، وظهره للضرب ظلمًا، وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه، معاون لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرام بنص القرآن. اهـ.
وأخيرًا: ننبه على أن حديث حذيفة قد رواه الشيخان من طريق أبي إدريس الخولاني عنه, وليس فيه زيادة: وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك, وإنما بلفظ: قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
وأما هذه الزيادة فهي عند مسلم من طريق أبي سلام قال: قال حذيفة، فذكره. قال الدارقطني في الإلزامات والتتبع: هذا عندي مرسل؛ أبو سلام لم يسمع من حذيفة, ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق؛ لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان - رضي الله عنه - بليال، وقد قال فيه حذيفة, فهذا يدل على إرساله اهـ.
وقال الشيخ مقبل الوادعي في تحقيق كتاب الدارقطني: وفي حديث حذيفة هذا زيادة ليست في حديث حذيفة المتفق عليه، وهي قوله: "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"! فهذه الزيادة ضعيفة؛ لأنها من هذه الطريق المنقطعة. اهـ.
ولكن هذه الزيادة لم يتفرد بها أبو سلام عن حذيفة، فقد تابعه سبيع بن خالد ـ ويقال: خالد بن خالد ـ اليشكري عن حذيفة، ولفظه: "وإن نهك جسمك وأخذ مالك" رواه أحمد ومعمر بن راشد وأبو داود والبزار وأبو عوانة وإبراهيم الحربي ونعيم بن حماد وابن أبي شيبة وابن حبان والحاكم.
وإن ضرب ظهرَك، وأخذَ مالَك»: "هذه الزيادة؛ ذكرها مسلمٌ رحمه الله؛ في غير الأصول، من طريق: أبي سلام عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معلول؛ لأن أبا سلام لم يسمع من حذيفة! قاله الدار قطني وجماعة من الحُفاظ، ورُوي من غير هذا الوجه عند أحمد، ولا يصحّ! وكذلك عند ابن حبَّان، وهو معلول! ولا يصحّ في ذلك شيءٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولو كان هذا الحديث معروفًا لاحتجّ به الصحابة على عبد الله بن عمرو بن العاص! حينما تجهَّز للقتال دفاعًا عن أرضه! وكان سيقاتل خليفةَ عصره، وهو في مسلم، واحتجّ عمرو بحديث: «من قُتل دون أرضه فهو شهيد». قلتُ: حديث حذيفة قد رواه الشيخان من طريق أبي إدريس الخولاني عنه، وليس فيه زيادة «وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، وإنما بلفظ: "قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»". ويَحسُن بنا ها هنا عرض كلام ابن حزم رحمه الله، على الفهم الخاطيء لهذه الزيادة! فقال رحمه الله: "فإذا كان هذا كذلك؛ فيقين لا شك فيه، يدري كلُّ مسلم، أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق، وضرب ظهره بغير حق.. إثم وعدوان وحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم»، فإذ لا شك في هذا؛ ولا اختلاف من أحد من المسلمين؛ فالمُسْلِم ماله للأخذ ظلمًا، وظهره للضرب ظلمًا، وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه، معاونٌ لظالِمه على الإثم والعدوان، وهذا حرامٌ بنصّ القرآن" (الفِصَل). وقد نصَّ ابن حزم رحمه الله كذلك، وغيرُه؛ على فرضية ثبوت هذه الرواية؛ فهي محمولة على الحاكم الشرعي العدْل، إذا فعل ذلك بحقِّه، ولم يكن فيه معتديًا ولا ظالمًا، كإقامة حدٍّ وغيره. فاللهم بصِّرنا بالحق والهدى.
الأوجه الخمسة للفظة: (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)
الوجه الأول: ذهب بعض أهل العلم المحققين إلى ضعف هذه اللفظة بالانقطاع.
والإمام مسلم رحمه الله إنما ذكرها في المتابعات لا في الأصول، ومِن المعلوم أنّ مُسلماً غالباً ما يأتي بحديثِ البابِ الذي هو أصلٌ ثم يأتي بطرقِ هذا الحديث .
ذكرَ الإمامُ مسلمٌ الحديثَ في الأصول مِن طريق الخولاني عن حذيفة بن اليمان بدون هذه الزيادة وهو الصحيح وجاء الحديث في صحيح البخاري بدون هذه الزيادة أيضاً.
ومَن قال إن الحديث جاء مِن طريق صحيح فعليه يكون الطريق المُرسَل صحيح فهذا مردودٌ لأن الطريق الذي فيه ضعف جاءت فيها زياةٌ وهذهِ الزيادةُ أضافة حُكماً آخر . فأصل حديث حذيفة ثابت ولكن الزيادة غير صحيحةٍ لأنُها جاءت بسندٍ منقطعٍ
من رواية أبي سلام ممطور الحبشي الدمشقي عن حذيفة، وأبو سلام لم يسمع من حذيفة، فحديثه عنه مرسل.
قال الدارقطني في التتبع فيما استدركه على الصحيحين (رقم 53): "وأخرج مسلم حديث معاوية بن سلام عن زيد عن أبي سلام عن حذيفة .. وهذا عندي مرسل، لم يسمع أبو سلام من حذيفة".اهـ
وقال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: "قال الدارقطني: هذا عندي مرسل، وهو كما قال الدارقطني".اهـ
وقال الشيخ جهيمان العتيبي رحمه الله: "هذه الزيادة؛ ضعيفة لأنها ليس لها ما يعضدها ويشهد لها ويقويها، وهي طرف من حديث طويل، فأول الحديث رواه البخاري من طريق صحيح، وهذه الزيادة في آخره لم تأت من طريق صحيح، وإنما من هذه الطريق التي فيها انقطاع، فهي ضعيفة".اهـ [الإمارة والبيعة والطاعة ص34].
وقال الشيخ مقبل بن هادي: "في حديث حذيفة هذا زيادة ليست في حديث حذيفة المتفق عليه، وهي قوله (وإن ضرب ظهرك أخذ مالك)، فهذه الزيادة ضعيفة، لأنها من هذه الطريق منقطعة".اهـ
وقال الحافظ ابن حجر عن أبي سلام: "وأرسل عن حذيفة وأبي ذر وغيرهما".اهـ "تهذيب التهذيب" [ج10/ص296]:
وقال محمد فؤاد عبد الباقي في التعليق على الحديث: "لم يسمع من حذيفة - قاله الدارقطني –".اهـ
قلت: ولكني وجدت متابعة موصولة لهذه اللفظة عن سبيع بن خالد عن حذيفة مرفوعاً: (..فإن كان لله عز وجل يومئذ خليفة ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).
قال الإمام ابن حبان رحمه الله: "سبيع بن خالد اليشكري من أهل البصرة يروى عن حذيفة".اهـ [الثقات 4/347].
و لقد وجدت هذه اللفظة من طريق سبيع بن خالد عند الإمام أحمد وأبي داود والحاكم والبزار والطيالسي وأبي عوانة ومعمر بن راشد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق، فلزم الصيرورة إلى تقويتها، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن يُقال: يسمع للإمام المسلم ويطاع في غير ضرب الظهر وأخذ المال، إذ إن ضرب ظهر المسلم وأخذ ماله معصية، ويدل على ذلك لفظة: (فإذا رأيت في الأرض يومئذ لله خليفة فالزمه وإن نهك ظهرك وأخذ مالك) كما عند أبي داود وغيره.
فالأمر بلزوم الخليفة يدل على عدم جواز اتخاذ تلك المعاصي كمبرر للخروج عليه، وفي ذات الوقت لا يعان على معصيته في أخذ المال المحرم وضرب المسلم بغير حق، ولا يُطاع في ذلك، لعموم النصوص الدالة على أن الطاعة في المعروف، ومنها الحديث المتفق عليه عن علي رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطباً فجمعوا له. ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا. ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟! قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك وسكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)".
والإحراق بالنار عقوبة –كما في رواية البخاري ومسلم- من جنس المعاقبة بضرب الظهر وأخذ المال، فتأمل!
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالكٍ في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى عماله في الصدقات: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها فليُعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: (ومن سئل فوقها فلا يعط) أي من سئل زائداً على ذلك في سن أو عدد فله المنع. ونقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه".اهـ [فتح الباري 3/319].
ويدل على صحة هذا التوجيه ما فهمه بعض السلف كعبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، ولم أقف على من أنكر عليه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن سليمان الأحول أن ثابتاً مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبى سفيان ما كان تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد)؟. [أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وقال شيخنا الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين"].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأشار بقوله: "ما كان" إلى ما بيّنه حيوة في روايته المشار إليها؛ فإن أولها أن عاملاً لمعاوية أجرى عينًا من ماء ليسقي بها أرضًا، فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص فأراد أن يخرقه ليـُجري العين منه إلى الأرض؛ فأقبل عبد الله بن عمرو ومواليه بالسلاح وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منا أحد، فذكر الحديث، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملاً لأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف، وامتناع عبد الله بن عمرو من ذلك لما يدخل عليه من الضرر".اهـ [فتح الباري 5/123].
وعن أبي قلابة قال: أرسل معاوية إلى عامل له أن يأخذ الوهط فبلغ بذلك عبد الله بن عمرو فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته وقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون ماله مظلوماً فهو شهيد) فكتب الأمير إلى معاوية أن قد تيسر للقتال وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد) فكتب معاوية أن خل بينه وبين ماله" [رواه عبد الرزاق في مصنفه].
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص، بقية الصحابة، وبحضرة سائرهم؛ يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض الوهط، ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب، وما كان معاوية رضي الله عنه ليأخذه ظلمًا صراحًا، لكن أراد ذلك بوجهٍ تأوَّله بلا شكٍّ، ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحقٍّ، ولبس السلاح للقتالِ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم، وهكذا جاء عن أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم..".اهـ [المحلى 11/99].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق