البدعة في السنة المطهرة
ورد في السنة مجموعة من الأحاديث تتحدث عن البدعة، بعضها جاء بصيغة العموم، وبعضها جاء بصيغة التخصيص.
فمما جاء بصيغة العموم حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة«(1). والبدعة في هذا الحديث تشمل البدعة الواحدة والأكثر، والبدعة الحسنة والبدعة السيئة.
ومما جاء بصيغة التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: »من ابتدع بدعة ضلالة، لا ترضي الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً«(1).
ففي هذا الحديث خصص الرسول صلى الله عليه وسلم البدعة المحرمة بأن تكون سيئة لا توافق عليها الشريعة.
والقاعدة الأصولية أنه إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص قدم الخاص، لأن في تقديم الخاص عملاً بكلا النصين بخلاف ما لو قدم العام فإن فيه إلغاء للنص الخاص(2).
فيكون المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: »كل بدعة ضلالة« البدعة السيئة وهي (ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام).
ويكون هذا على حد قوله صلى الله عليه وسلم »كل عين زانية«(1) أي كل عين تنظر إلى امرأة بشهوة فهي زانية لا كل العيون(2).
قال الإمام الحافظ الفقيه محيي الدين النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه والسلام: (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع. قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل على غير مثال سابق.
قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة. فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك. ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم، وبناء المدارس والربط وغير ذلك. ومن المباح: التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران. وقد أوضحت المسألة بأدلتها المبسوطة في تهذيب الأسماء واللغات، فإذا عرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص. وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة. ولا يمنع من كون الحديث عامّاً مخصوصاً قوله: (كل بدعة) مؤكداً (بكل)، بل يدخله التخصيص مع ذلك، كقوله تعالى: تدمر كل شيء(1).انتهى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
»من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد« (2)
وفي رواية لمسلم: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد«(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: »من أحدث في أمرنا هذا فهو رد« ولم يقل: »من عمل عملاً فهو رد«. وإنما قيد ما أطلقه، والعلماء الربانيون علماء الأصول يقولون: لو ثبت حديث بالإطلاق وثبت نفس الحديث بالقيد فيجب حمل المطلق على المقيد، ولا يجوز العمل بالحديث على إطلاقه، وعلى هذا فيكون مفهوم هذا الحديث: »من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه فهو مقبول« و»من عمل عملاً عليه أمرنا فهو مقبول«.
فإذا كان الأمر كذلك فالحديث يكون مفهومه ومنطوقه ما يلي:
1 يجوز إحداث البدعة المحمودة الحسنة إذا كانت مبنية على أصل شرعي صريح أو مجمل أو مستنبط، فتكون هذه البدعة عندئذ جزءاً من الدين.
2 الحديث يشمل أمور الدين كلها سواء أكانت في العبادات أم في المعاملات.
3 يؤخذ من الحديث جواز إحداث أمور من الدين وليست موجودة في عصره، فلا يشترط في الأعمال الشرعية أن يكون قد فعلها.
كما أن تركه صلى الله عليه وسلم لبعض الأعمال لا يدل على حرمة فعلها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
4 اعتراضات الشاطبي:
يرى الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى أن المفاهيم التي تخصص في الأحاديث السابقة ملغاة لأنه يترتب على الأخذ بها محظورات شرعية أهمها:
أ أنه يترتب على الأخذ بها أن الدين لم يكمل مع أن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم.
والجواب: أن معنى الآية أكملت لكم قواعده ومبادئه، ومن ضمن هذه المبادئ جواز إحداث البدعة الحسنة، فالذي يبتدع لا يعني عمله أنه زاد في الدين، أو تدارك نقصاً في الشريعة، أو اتبع هواه، أو شرع بعقله، بل هو تطبيق لقاعدة شرعية استقاها من الكتاب والسنة، غير مضاه بها الشرع الحكيم، ولا قاصد بها معاندة الله ومشاقة رسوله.
ب أن فيه خروجاً عن الخط المستقيم، فعن عبدالله قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً طويلاً، فقال: (هذا سبيل الله) وخط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: »هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه« ثم تلا هذه الآية وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني الخطوط فتفرق بكم عن سبيله[الأنعام:153].
والجواب: بأن الخط الطويل الذي يمثل سبيل الله من ضمن قواعده المستنبطة منه جواز إحداث البدعة الحسنة، فالعامل بها عامل بما في ذلك الخط المستقيم.
وتحمل أقوال المفسرين من السلف التي تخالف ما ذكر على البدعة السيئة وعلى بدعة الاعتقاد كما في القصة التي رواها الشاطبي: »حكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال: لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة، فسألته عن شيء، فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً؟ قلت: نعم. قال: من أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بذنب، فقال عطاء: عرفت فالزم«.
وتحمل بعض تشددات الإمام مالك في الإحداث على حرصه في أن يبقى عمل أهل المدينة سالماً من التزيد، لأن عملهم يعتبر من الأدلة التي يحتج بها.
ج) أن فيه مخالفة لقول عمر بن عبدالعزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله، وقوة لدين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها.
قال الشاطبي: وبحق،ما كان يعجبهم! فإنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة، منها ما نحن فيه بأن قوله: (ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها) قطع لمادة الابتداع جملة(1).
والجواب أن ما يؤخذ من السنة والآثار جواز إحداث البدعة الحسنة، فالعمل بها عمل بالسنة، ويقال نفس الكلام للمعارضين لإحداث البدعة الحسنة: لا يجوز لأحد تغيير هذه السنة، ولا تبديلها، ولا محاربتها.
تنبيه:
بعض الأحاديث التي استدل بها الإمام الشاطبي عند كلامه على الآية الكريمة إن الذين فرقوا دينهم ضعفها الشوكاني عند تفسيره لهذه الآية(1).
أقوال العلماء في الحديث:
وقال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه. انتهى(2).
وقول ابن حجر رحمه الله: »ما لا يشهد له أصل« صريح في أن هناك حوادث واختراعات في الدين يشهد لها أصل، وهذا هو الذي دل الحديث عليه بعينه.
وقال الإمام الطرقي: مفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح.
قال سيدنا عمر رضي الله عنه في اجتماع الناس على صلاة التراويح في المسجد »نعمت البدعة هذه«. انتهى(1).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق