ما زلنا في مسألة الاستغاثة والاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين، مع التركيز على الأدلة والضوابط التي ذكرها أئمة الإسلام، وتوضيح الفرق بين الجائز والممنوع.
أولاً: تعريف المصطلحات:
* الاستغاثة: لغةً طلب الغوث والعون والنجدة عند الشدة والكرب. واصطلاحاً: طلب العون من الله تعالى، وقد يتوسع ليشمل طلب العون من المخلوق فيما يقدر عليه مع اعتقاد أن العون الحقيقي من الله.
* التوسل: لغةً التقرب إلى المطلوب بالوسيلة. واصطلاحاً: التقرب إلى الله تعالى بذاته أو بأسمائه وصفاته أو بأفعاله أو بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أو بصالح الأعمال أو بجاه الأنبياء والصالحين.
ثانياً: أنواع الدعاء:
يجب التمييز بين نوعين أساسيين من الدعاء:
* دعاء العبادة: وهو كل فعل أو قول يقصد به التقرب والتذلل والخضوع لله تعالى وحده، اعترافاً بربوبيته وألوهيته واستحقاقه للعبادة. هذا النوع من الدعاء لا يجوز صرفه لغير الله تعالى، وصرفه لغيره هو الشرك الأكبر.
* دعاء المسألة: وهو طلب الحاجات والمنافع ودفع المضار. هذا النوع من الدعاء موجه في الأصل إلى الله تعالى، ولكن يجوز توجيهه إلى المخلوق فيما يقدر عليه، مع الاعتقاد بأن الله هو المقدر والفاعل الحقيقي.
ثالثاً: الاستغاثة بالأنبياء والصالحين:
* الاستغاثة بالله تعالى: هي الأصل والمشروعة في كل حال. قال تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9].
* الاستغاثة بالمخلوق الحي الحاضر القادر: جائزة فيما يقدر عليه المخلوق. كقولك "يا فلان أغثني" إذا كان قادراً على مساعدتك في أمر دنيوي. وهذا من باب طلب المعونة من الغير وليس من باب العبادة.
* الاستغاثة بالأنبياء والصالحين الأموات أو الغائبين: هنا يقع الخلاف. أهل السنة والجماعة يجيزونها بضوابط:
* أن يكون المقصود هو طلب الدعاء والشفاعة منهم عند الله، لا طلب الفعل والتأثير منهم مباشرة.
* اعتقاد أنهم مجرد أسباب ووسائل، وأن الله هو الفاعل الحقيقي وحده.
* عدم اعتقاد قدرتهم المستقلة على قضاء الحاجات أو دفع الضر.
أدلة جواز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين :
* آية النساء: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء: 64].
* التفصيل: الآية تأمر المذنبين بالمجيء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليطلبوا منه الاستغفار لهم، وهذا فيه طلب للشفاعة والدعاء.
* دلالة العموم: الفعل "جَاءُوكَ" والاستغفار منه لم يقيد بحياته صلى الله عليه وآله وسلم الدنيوية. ففضله ومكانته عند الله باقية بعد انتقاله.
* فعل الأعرابي وقصة العتبي: القصة المشهورة التي ذكرها ابن كثير وغيره تدل على فهم جواز المجيء إلى قبره صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الشفاعة منه بعد وفاته، وقد استحسنها العلماء.
* حديث "يا عباد الله احبسوا":
* التفصيل: الحديث الذي رواه ابن تيمية في "الكلم الطيب" يجيز نداء الغائبين من عباد الله للاستعانة بهم في حبس الدابة المنفلتة.
* دلالة النداء: النداء موجه لمن هو غائب وغير مرئي، وهم إما الملائكة أو صالحو الجن أو أرواح الصالحين. وهذا يدل على جواز طلب العون من الغائبين الصالحين بإذن الله.
* فعل الإمام أحمد بن حنبل:
* التفصيل: استغاثة الإمام أحمد بـ "يا عباد الله دلونا على الطريق" في حالة الضلال تدل على جواز طلب العون من الغائبين الصالحين.
* حياة الأنبياء في قبورهم:
* التفصيل: الأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخية، ويصلون كما ورد في الحديث. فإذا كانوا أحياء، فطلب الدعاء منهم ليس مستحيلاً عقلاً ولا شرعاً، قياساً على طلب الدعاء من الأحياء.
* توسل الصحابة:
* التفصيل: توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته ثابت. كتوسلهم بذاته ودعائه وشفاعته. وقصة بلال بن الحارث المزني تدل على التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته.
رابعاً: الاستشفاع بالأنبياء والصالحين:
* الاستشفاع هو طلب التوسط. وهو جائز إذا كان الطالب يعتقد أن الشافع لا يملك بذاته النفع والضر، وأن الأمر كله بيد الله تعالى، وأن الشافع إنما يتوسط بجاهه ومنزلته عند الله.
* الأنبياء والصالحون لهم منزلة عظيمة عند الله، وطلب شفاعتهم هو من باب التوسل بجاههم ودعائهم.
خامساً: التوسل بالأنبياء والصالحين:
* التوسل جائز بأنواعه المشروعة: التوسل بأسماء الله وصفاته، بأفعاله، بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، بصالح الأعمال، بدعاء الصالحين الأحياء.
* التوسل بجاه الأنبياء والصالحين محل خلاف، ولكن جمهور أهل السنة يجيزونه مع الاعتقاد بأن الجاه ليس هو المؤثر بذاته، بل هو سبب في إجابة الدعاء بفضل الله وكرمه.
سادساً: المحاذير والضوابط:
يجب الحذر من الوقوع في المحاذير التي تجعل الاستغاثة والاستشفاع والتوسل شركاً، ومن أهمها:
* اعتقاد أن المخلوق يملك النفع والضر بذاته: هذا هو الشرك الأكبر. يجب الاعتقاد بأن الله وحده هو النافع الضار.
* دعاء المخلوق دعاء عبادة: صرف أنواع العبادة كالذبح والنذر والخوف والرجاء التألهي لغير الله هو الشرك الأكبر.
* الاعتماد على المخلوق والتوكل عليه: التوكل الحقيقي لا يكون إلا على الله تعالى. أما طلب المساعدة من المخلوق فيما يقدر عليه فهو من باب الأخذ بالأسباب.
* الغلو في الأنبياء والصالحين: تجاوز الحد في تعظيمهم ورفعهم فوق منزلتهم البشرية هو من أسباب الشرك.
سابعاً: أقوال أئمة الإسلام:
لقد أجاز الاستغاثة والاستشفاع والتوسل بالضوابط المذكورة العديد من أئمة الإسلام من مختلف المذاهب، منهم:
* الإمام مالك بن أنس: استدل بآية النساء على جواز طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارة قبره.
* الإمام الشافعي: نقل عنه جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته.
* الإمام أحمد بن حنبل: كما ورد في قصة استغاثته بـ "يا عباد الله".
* الحافظ ابن كثير: ذكر قصة العتبي ولم ينكرها في تفسيره.
* الإمام النووي: ذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتوسل به في كتبه.
* الإمام السيوطي: ألف رسائل في جواز التوسل والاستشفاع.
ثامناً: الرد على شبهات المانعين:
يستند المانعون للاستغاثة والاستشفاع والتوسل بالأموات والغائبين إلى بعض الأدلة التي فهموها على غير وجهها، منها:
* قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
* الرد: الآية تنهى عن دعاء غير الله دعاء عبادة، وليس دعاء المسألة أو طلب الشفاعة.
* قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ [الأعراف: 197].
* الرد: الآية تتحدث عن الأصنام والأوثان التي لا تملك شيئاً ولا تسمع ولا تعقل، وليس عن الأنبياء والصالحين الذين أكرمهم الله.
* حديث: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".
* الرد: الحديث يرشد إلى التوجه إلى الله في الأمور العظام، ولا يمنع من طلب المساعدة من المخلوق فيما يقدر عليه.
تاسعاً: الخلاصة والتأكيد:
إن مسألة الاستغاثة والاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين دقيقة، ويجب فهمها في ضوء الأدلة الشرعية وأقوال أئمة الإسلام مع مراعاة الضوابط الشرعية لعبادة الله وحده. الجائز منها ما كان على سبيل السببية وطلب الدعاء والشفاعة مع اعتقاد أن الله هو الفاعل الحقيقي، والممنوع ما تضمن اعتقاد القدرة المستقلة للمخلوق أو دعاءه دعاء عبادة.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للفهم الصحيح لدينه وأن يجنبنا الغلو والتفريط.
--
1- عن علي بن ميمون قال : سمعت الشافعي يقول :
إني لأتبرك بأبي حنيفة وأجئ إلى قبره في كل يوم ـ زائرا ـ *فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد حتى تقضى*
رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في التاريخ ج 1 ، ص 123
ذكره الخوارزمي في مناقب أبي حنيفة ج 2 ص 199
والكردري في مناقبه 2 ص 112 ،
وطاش كبرى زادة في مفتاح السعادة 2 ص 82
وذكر الفقيه ابن حجر الهيتمي ان لمّا بلغ الشافعي أنّ أهل المغرب يتوسَّلون بمالك لم ينكر عليهم
2 – الماوردي 364 هـ :450 هــ :
ذكـر قصة العتبي وأقـرها كما أقرها أبو الطيب المجموع شرح المهذب ( 8 / 256 ) .
3 – الإمام أحمد بن الحسين البيهقي الشافعي 384 هـ.
الحافظ البيهقي : روى عنه ابن الجوزي في المنتظم ( 11 / 211 ) من مناقب أحمد بن حرب ” استجابة الدعاء إذا توسل الداعي بقبره ” .
4 – الحافظ ابن عساكر الشافعي ( ت : 571 هـ ) :
كتب في أربعينياته ” يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي ” .
5 – قال الإمام النووي في المجموع ( ج 8 / 274 ) كتاب صفة الحج، باب زيارة قبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم : ” ثم يرجع إلى موقفه الأول قُبالة وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ويتوسل به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه “.
6 – ابن خلكان الشافعي ( ت : 681 هـ ) :
“بمحمد النبي وصحبه وذويه ” وفيات الأعيان (6/13)
7 – المحب الطبري الشافعي :
“بمحمد وآله وصحبه” ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى (1 / 261 ).
8 – قال الإمام السبكي : في كتابه شفاء السقام ما نصه :
” اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى وجواز ذلك وحُسْنُه من الأمور المعلومة لكل ذي دين المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين ، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار … ” اهـ.
9 – العالم العلامة الفيومي الشافعي ( ت :770 هـ ) قال في خاتمة كتابه ” المصباح المنير في غريب الشرح الكبير” في اللغة داعياً : ” ونسأل الله حسن العاقبة في الدنيا والآخرة وأن ينفع به طالبه والناظر فيه وأن يعاملنا بما هو أهله بمحمد وآله الأطهار وأصحابه الأبرار ” .
10 – الإمام الفقيه تقي الدين الحصني الشافعي
قال الإمام تقي الدين الحصني : (والمراد أن الاستغاثة بالنبي واللواذ بقبره مع الاستغاثة به كثير على اختلاف الحاجات، وقد عقد الأئمة لذلك باباً، وقالوا : إن استغاثة من لاذ بقبره وشكى إليه فقره وضره توجب كشف ذلك الضر بإذن الله تعالى ) .
دفع شبه من شبه وتمرد ص 89 . )
11- الإمام الحافظ ابن الجزري الشافعي
قال في كتابة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين : .
(( ويتوسل إلى الله سبحانه بأنبيائه والصالحين ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق