*
من فقه العشر الأول من ذي الحجة*
: وليد فائق الحسيني
-------------------------------
1- العشر الأول من ذي الحجة هي أعظم أيام السنة، وهي في النهار أعظم من نهار رمضان، لأن فيها يوم عرفة وهو سيد الأيام، ويوم النحر وهو أعظم الأيام، وأما في الليالي فليالي رمضان خير منها، لأن فيها ليلة القدر وهي أعظم الليالي.
2- كل عمل صالح في هذه العَشر هو خير وأحب إلى الله من مثله في سائر أيام السنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام، يعني العشر الأوائل من ذي الحجة) "رواه البخاري"
3- أفضل الأعمال في هذه الأيام الحج الصوم والذكر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم التسع الأول "رواه ابو داود" لان العاشر عيد لا يجوز صيامه.
وسبب صيامها كلها أن الصوم عبادة استغراقية، فالصائم يقضي كل لحظات النهار في عبادة الصوم، فلا تضيع منه لحظة من هذه الأيام .
4- ومن أفضل الأعمال فيها: الذكر، لقوله تعالى (ويذكروا الله في أيام معلومات) وهي العشر من ذي الحجة
وأفضل الذكر هو قراءة القرآن، وقد كان سلفنا الصالح يختمون القرآن في هذه العشر .
5- أفضل الذكر في هذه الايام بعد القرآن (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) لحديث: (فأكثروا فيهن من التكبير ، والتهليل ، والتحميد)
"رواه أحمد وغيره"
6- يستحب التكبير بعد الصلوات، من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، وصيغته: (الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر . لا إله إلا الله، والله أكبر . الله أكبر . ولله الحمد)
ويستحب أن يزيد عليها : (الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله والله أكبر)
7- اليوم التاسع هو يوم عرفة، سيد الأيام، يستحب ان يخلو فيه المرء مع ربه، ويترك الدنيا، فيذكر ويستغفر ويدعو، وقد كان سلفنا الصالح يجمعون حوائج السنة كلها فيدعون بها يوم عرفة.
8- صيام يوم عرفة، يغفر الله فيه ذنوب سنتين، سنة ماضية وسنة قابلة "رواه مسلم" وهذا الفضل لا يوجد في عمل غيره.
9- أفضل الأعمال في يوم النحر وأيام التشريق هي الأضحية "الترمذي وابن ماجه"
10- يستحب لمن يريد أن يضحي أن لا يأخذ شيئا من شعره وظفره، من رؤية هلال ذي الحجة، او غروب شمس آخر ليلة من شهر ذي القعدة، وإلى أن يذبح أضحيته، ومن أشرك معه عائلته في أضحيته فلا يشملهم هذا الحكم.
----------------
-------------------------------------------------------------
مقتطفات مهمة حول موضوع الأخذ من الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي
المقصود من هذه المقالة بيان أمور :
1-كيف يُشاع بين عوام المسلمين القول المخالف لقول جماهير أهل العلم ، وكيف يُنشر القول المخالف للدليل الأرجح ، حتى كأنه لا وجود لقول الجمهور والقول الأقوى فقها ودليلا !
2-وكيف يُشاع دليل القول المرجوح دون أدلة القول الراجح الذي عليه الجماهير .
3-وكيف تُشاع سطحية التفقه بمثل هذا المنهج الذي يستغل الظواهر أو تستغله الظواهر ؛ لأنه لا يحترم القول المخالف ، ولو احترم القول المخالف ، لما أعان على نشر السطحية ، حتى لو أخذ بالقول المرجوح .
4-وكيف يجب التعمق في تناول الأدلة ، عدم الاكتفاء بظاهر أحد الأدلة .
حيث ورد في هذه المسألة حديثان متعارضان :
الحديث الأول: هو حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: « «إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعرا، ولا يقلمن ظفرا». وفي لفظ: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا». وفي لفظ: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [1977].
والحديث الثاني: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم» [البخاري [1698] ومسلم [1321] ]. وفي أحد ألفاظه عندهما: عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن: « أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها إن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، قالت عمرة: فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي» .
فاختلف العلماء في الموقف من الحديث الأول (حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي) ؛ لأسباب :
الأول : معارضة ظاهره لحديث عائشة (رضي الله عنها) .
الثاني : انفراده بحكم فقهي يعارض فقه الباب من خمس جهات :
1-وهو أن غير المحرم لا علاقة له بأحكام المحرم ؛ فقد أجمعوا مثلا على أنه لا بأس بالجماع في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، وأن ذلك مباح له ، فحلق الشعر والأظفار أحرى أن يكون مباحا . وكذلك التطيب ، لا يحرم على غير المحرم . وقد اعترض ابن حزم على هذا الإشكال بكلام فاسد ، مبني على عدم قوله بالتعليل وعلى جمود الأخذ بالظاهر ، ولذلك لم يأبه له الفقهاء ، حتى قال العيني عن كلام ابن حزم : «وهذا كلام ساقط ، ظاهر سقوطه ، لا يُـحتاج إلى بيانه ؛ لوضوحه» .
2-وأن الضحية ليست مختصة بالمحرم أصلا ، فالضحية مشروعة لكل قادر ، فلا علاقة بينها وبين أحكام الإحرام .
3-وأن من أراد الإحرام يُستحب له أن يتنظف بالأخذ من شاربه ونتف إبطه وحلق عانته وتقليم أظافره قبل إحرامه ، حتى في مذهب من أخذ بحديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وقد يُحرم بعد دخول العشر ، وهو يريد أن يضحي . فهنا يتناقض أمران : أمر من مستحبات الإحرام ، وأمر لا علاقة له بالإحرام وهو الضحية .
4-أن العيد يُستحب له التنظف والتزين قبل صلاة العيد ، ومن سنن الفطرة في الزينة الأخذ من الشعر والظفر ، والضحية لا تُذبح إلا بعد صلاة العيد .
5-أن الضحية مستحبة على الراجح ، وهو قول عامة أهل العلم ، ولا يمكن أن يكون أمر مستحبا ويكون أمرٌ ليس من شروطه ولا من أجزائه (ليس ركنا ولا واجبا من واجباته) واجبا . وسيأتي شرح هذا الأمر بتفصيل أكبر .
ولهذا الإشكال في حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي (حديث أم سلمة رضي الله عنها) تعددت مواقف العلماء منه :
الموقف الأول : من العلماء من مال إلى تضعيف حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها ، بأنه حديثٌ وقع فيه اختلافٌ في رفعه إلى النبي ﷺ، حيث وَقَفَهُ بعضُ الرواة على أم سلمة رضي الله عنها، فجعل الحديثَ من كلامها لا من كلام النبي ﷺ.
والحقُّ أن الاختلاف في تضعيف حديث أم سلمة رضي الله عنها اختلافٌ قويٌّ، مع كونه حديثًا في صحيح مسلم !
فقد مال إلى تضعيفه أحد كبار نقاد الحديث، ألا وهو الإمام الدارقطني .
ومع هذا الاختلاف القويّ، إلا أن الأرجح عندي فيه هو صحة الرفع. وتصحيحه هو ما كان عليه أكثر النقاد، حسب ما وصلنا من أحكامهم: كالإمام أحمد، والترمذي والطحاوي وابن حبان والبيهقي وأبي مسعود الدمشقي، وغيرهم، فكلهم على تصحيحه.
ومع ذلك فيبقى التضعيف قولا وجيهًا، حتى إن الإمام الطحاوي مع ترجيحه قبولَ الحديث المرفوع، لم يستطع إغفالَ الفرق الكبير في درجة الصحة بين حديث أم سلمة وحديث عائشة المعارِض له، حيث قال في كتابه (شرح معاني الآثار): « ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول. ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها , لأنه جاء مجيئا متواترا. وحديث أم سلمة رضي الله عنها , لم يجئ كذلك , بل قد طعن في إسناد حديث مالك , فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها ».
بل لقد نقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم تضعيفَ حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو نقلٌ بخلاف ما نجده اليوم في المصادر؛ إلا إن أراد أن عدم أخذ عامة الفقهاء بحديث أم سلمة رضي الله عنها يدل على تضعيفهم له، فقوله حينئذ له وجهُهُ الذي تؤيده المصادر حتى اليوم ؛ إلا أن عدم الأخذ بظاهر الحديث لا يلزم منه التضعيف، إذ قد يكون مبنيًّا على تأويله (كما سيأتي) .
الموقف الثاني : موقف من قبل الحديثين وصحح الاحتجاج بهما ، فلجأ إلى الجمع بينهما . ولكنهم اختلفوا في أوجه الجمع ، فاختلف الحكم الفقهي بحسب جمعهم :
الوجه الأول في الجمع بين الحديثين : من مال إلى تحريم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي .
وهو الجمع الذي اختاره الإمام أحمد ، واستفاده من شيخه يحيى بن سعيد القطان . فقد قال الإمام أحمد : «ذكرتُ لعبدالرحمن بن مهدي حديثَ أمِّ سلمة وحديثَ عائشةَ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء" ؟ فبقي ساكتا، ولم يجب. (قال الإمام أحمد : ) وذكرتُه ليحيى بن سعيد؟ فقال: ذاك له وجهٌ ، وهذا له وجه : وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر ، وحديث عائشة لمن بعث بهديه وأقام . (قال الإمام أحمد:) وهكذا أقول : حديث عائشة هو على المقيم الذي يُرسل بهديه ، ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي الذي بعث به ، فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره ، على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن يضحي في مصره».
وقد ردّ هذا الجمعَ ابنُ عبد البر، بقوله: « قد صحَّ أن النبي ﷺإذْ بعث بهديه لم يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وصحَّ أنه كان يُضَحِّي ﷺ، ويحضُّ على الضحية، ولم يصحَّ عندنا أنه ﷺفي العام الذي بعث فيه بهديه (ولم يبعث بهديه لِيُـنْـحَرَ عنه بمكة؛ إلا سنةَ تسعٍ، مع أبي بكر)، ولا يُوجَد = أنه لم يُضَحِّ في ذلك العام».
والذي يُقوِّي جوابَ أبي عمر ابن عبد البرّ: أن النبي ﷺ لم يترك الضحية ، حتى في حجة الوداع ، لما حجَّ ، كما يدل عليه حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: ضَحَّى رسول الله ﷺ، ثُمَّ قال: «يا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لنا لَـحْمَ هذه الشَّاةِ» ، قال: فما زِلْتُ أُطْعِمُهُ منها، حتى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. أخرجه مسلم وأبو داود واللفظ له.
فإذا كان النبي ﷺ لم يترك الضحيةَ في حَجِّة الوداع، مع كونه ﷺ قد ساق معه من الهدي مائةً من الإبل نُحرت كلها بمنى يوم النحر ، مع ذلك فهو لم يترك الضحية حتى في هذا اليوم الذي أهدى فيه بمائة من الإبل ، وهو حاجٌّ مسافر = فَـلَأن لا يترك الضحية إذا أرسل هَدْيَه ليُنحر بعيدًا عنه بمكة، وهو مقيمٌ في المدينة = أَوْلى وأَحْرى !!
قلتُ وهناك جوابٌ آخر على جمع الإمام أحمد: أن مَن بعث بهديه إلى مكة أولى بأن يشابه حالُه حال المحرِم ممن اكتفى بالتضحية في بلده ؛ لأن من بعث بالهدي أشبهُ حالاً بالمحرِمِ في نسيكته ممن اكتفى بالتضحية في بلده .
ويدل على قوة هذه الأشبهيّة وعلى أثرها في فقه هذا الباب:
1-أن هذا الشَّبَهَ القوي بين الحاجّ والذي يُرسلُ الهدي من غير الحجاج هو الذي جعل ابن عباس رضي الله عنهما يقيس الحلالَ غير الحاجّ على المحرم في ترك محظورات الإحرام ، كما في قصة ردِّ عائشة لاجتهاده هذا ، التي سبق ذِكْرُها من الصحيحين .
2-كما أن هذا الاجتهاد هو اجتهاد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أيضا: فقد صحَّ عنه أنه «كان إذا بعث بالهدي، يُمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أن لا يلبي»، وصحّ عنه أيضًا: أنه سُئل عن الرجل يبعث بالهدى وهو مقيم ؟ فقال: «يُواعده يومًا، فإذا بلغ، أمسك هو عما يمسك عنه الحرام». بل هذا الاجتهاد هو اجتهادُ جماعة من السلف، ويخالفهم فيه آخرون منهم.
وعلى هذا: فإنه إن كان على من أراد أن يُضحي أن يمسك عن شعره وظفره ، فمن بعث بهديه أولى بأن يمسك عنهما . وهذا مما يدل على ضعف الجمع الذي رضيه الإمام أحمد من جهة الفقه والقياس !
وقد أشار الإمام الشافعي إلى هذا المعنى عندما قال عقب حديث عائشة: « في هذا دلالةٌ على ما وصفتُ، من أن المرء لا يُـحْرِمُ بالبَعْـثَةِ بهديه. يقول: البعثةُ بالهدي أكبر من إرادة الضحية».
أي : إذا كان المقيم ببعثه للهدي إلى مكة لم يحرم عليه الأخذ من الشعر والظفر ، فأولى منه من أراد أن يضحي .
بل ذهب الإمام الماوردي (ت450ﻫ) إلى أبعد من هذا الاستدلال، وبما يردّ على جمع الإمام أحمد أيضًا من وجهٍ آخر، حيث عدَّ هَدْيَ النبي ﷺ الذي بعثه مع أبي بكر رضي الله عنه، والذي ذَكَـرَتْـهُ عائشةُ رضي الله عنها = هو نفسه ضحايا النبي ﷺ، ومع ذلك لم يُـحَـرِّم النبي ﷺ على نفسه شيئًا مما يَـحْرُمُ على المحْرِم. فقال (رحمه الله): «فكان هَدْيَ رسولِ الله ﷺ، وضحاياه؛ لأنه كان بالمدينة، وأنفذها مع أبي بكر سنةَ تسعٍ. وحُكْـمُها أغلظُ؛ لِسَوْقِها إلى الحرم. فلما لم يُـحَـرِّمْ على نفسه شيئًا، كان غيره أولى إذا ضَحَّى في غير الـحَرَمِ».
وبهذين الجوابين يتبيّنُ أن هذا الجمع الذي ذهب إليه الإمام أحمد ليس هو الجمع القوي الذي يمكن أن يحلّ إشكالَ التعارض بين الحديثين ، فضلا عن بقية الإشكالات الفقهية التي سقناها آنفا .
وأما الوجه الثاني للجمع بين الحديثين: فهو جمعُ الإمام الطحاوي، وهو أنه ذكر من روايات حديث عائشة رضي الله عنها هذا اللفظ: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله ﷺ، ثم يبعث بالهدي، ويقيم عندنا، لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم من أهله، حتى يرجع الناس»، ثم جعل الإمامُ الطحاويُّ حديثَ عائشةَ خاصًّا بالجماع، فهو الأمر الذي كان النبي ﷺلا يدعه، حتى عند عَزْمِه على الضحية، وهو بتخصيصه في عدم ترك الجماع لا يعارض أنه ﷺكان يُمسك عما سوى الجماع، وهو الأخذ من الشعر والظفر، الوارد في حديث أم سلمة. فجعل حديثَ عائشةَ في عدم الامتناع عن الجماع خاصة، وحديثَ أمِّ سلمةَ في الإمساك عن الشعر والظفر.
وهذا الجمع أيضًا ضعيف ، بل هو أضعف من الأول :
أولا: لأن الإمام الطحاوي إنما استدلّ بأحد ألفاظ الحديث، وترك الألفاظَ الأخرى الصريحة في التعميم، ومنها ما جاء في الصحيحين: كقولها رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شيئا مِمَّا يَـجْـتَـنِـبُه الـمُحرِمُ»، وفي الرواية الأخرى: «فلم يَحْرُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ الله، حتى نُحِرَ الْهَدْيُ».
وثانيًا: أن ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يكن يمتنع عن الجماع فقط ، حين ردّت عليه عائشة (رضي الله عنها) بفعل النبي ﷺ . بل لقد كان ابن عباس يترك كلَّ شيءٍ يتركه المحرم، حتى إنه كان يتجرّد من ملابسه ! فعن رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الـهُدير انه رَأَى عبد الله بن عباس وهو أميرٌ على البصرة ، في زمن علي بن أبي طالب ، مُتَجَرِّدًا على منبر البصرة ، فَسَأَل الناس عنه ؟ فَقَالُوا: إنه أَمَرَ بِهَدْيِهِ أن يُقَلَّدَ؛ فَلِذَلِكَ تَـجَرَّدَ. (قال رَبِيعَةُ:) فَلَقِيتُ عَبْدَ الله بن الزُّبَير، فَذَكَرْتُ لَه ذلك ؟ فقال: بِدْعَةٌ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ». فلم يكن الاجتهادُ الذي تَـرُدُّ عليه عائشةُ اجتهادَ مَن يرى الامتناعَ عن النساء فقط ، بل كان يمتنع عن كل شيءٍ يمتنع منه المحرم ، ومنه النساء . وعلى هذا كان ابن عمر (رضي الله عنه) أيضا ، كما سبق نقل كلامه . فلا يصح حَـمْلُ كلام عائشة (رضي الله عنها) وحديثُها على أنها إنما تخالف اجتهادَ من كان يرى الامتناعَ عن النساء فقط ؛ لأن الذين كانت تردُّ عليهم لم يكن هذا هو اجتهادهم أصلا .
والوجه الثالث في الجمع بين الحديثين : وهو جمع من مال من العلماء إلى حمل حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر على أنه نهي للكراهة ، وليس للتحريم . وبذلك جمعوا بين الحديثين، وهم الجمهور: وهذا هو ما ذهب إليه المالكية، والشافعي والشافعية، وبعض الحنفية (ونسبوه إلى الإمام أبي حنيفة)، وبعض الحنابلة . ونُقلَ القولُ به عن: عبدالله بن المبارك. بل نقل بعضُ الحنفيةِ الإجماعَ على هذا القول، فقد جاء في حاشية ابن عابدين: « ومما ورد في صحيح مسلم: قال رسول الله ﷺ: «إذا دخل العشر، وأراد بعضكم أن يضحي، فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا»، فهذا محمولٌ على الندب، دون الوجوب، بالإجماع».
وهذا الجمع هو أقوى وجوه الجمع ، على ثبوت صحة حديث أم سلمة (رضي الله عنها) .
فبغض النظر عن الاختلاف الذي ذكرناه للعلماء، ومالهم فيه من استدلالات لم أحصها كلها. وبغض النظر عن هذا الاجتهاد العميق الذي بذله العلماء في توجيه الحديثين المتعارضين؛ إلا أن ذلك كله لا يؤثر عندي في فهم النهي النبوي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة؛ فلو لم يرد حديث عائشة، بل لو لم يأت أيُّ حديثٍ يعارض حديث أم سلمة، ما كان حديثها عندي ليدلّ على تحريم الأخذ من الشعر والظفر ! وسيبقى عندي دالاًّ على الكراهة فقط !!
ذلك أن الضحية نفسها سنة (على الراجح)، وهو قول عامة أهل العلم . وقد دلَّ استقراء أحكام الشريعة واطّرادُ أصولها : أنه لا يمكن أن تستحبَّ الشريعةُ شيئًا، ثم هي مع استحبابها له تُوجب له أمرًا ليس هذا الأمرُ من شروط ذلك المستحب ولا جزءًا من أجزائه الواجبة؛ حيث إن هذا لو وقع لكان تناقضًا لا يقبله ترتيبُ الأحكام الشرعية بعضها على بعض؛ بل لا تقبله الأوامر المعقولة من العقلاء ! إذ كيف يكون الأصل مستحبًّا وفَرْعُه (الذي ليس من شروطه ولا من واجباته) واجبًا؟!
أرأيت لو قال الرئيس للمرؤوس : "لو أيقظتني الساعة الفلانية فهو حسن ، ولن ألومك ولن أعتب عليك إن لم تفعل . لكن إذا نويت إيقاظي فلا بد أن تجني ثمر شجر المزرعة ، وإلا سأكون غاضبا عليك " ، ولا علاقة بين استيقاظه في ذلك الوقت وجني الثمار ! مثل هذا الأمر لا يصدر من عاقل ، فضلا عن حكيم !!
ونحن قد عرفنا عدم وجود هذه العلاقة بين الضحية والأخذ من الشعر والظفر من أن الضحية تصح وتُتقبل حتى ولو أخذ المضحي من شعره وظفره عند من يرى حرمة الأخذ ، ولا ادعى أحد من العلماء أن أجر الضحية ينقص بالأخذ من الشعر أو الظفر ، فضلا عن أن يقول أحد ببطلان الضحية ! فضلا عن عدم التلازم الظاهر والتباين التام بين أحكام الضحية وحكم الأخذ من الشعر والظفر .
وبذلك يتبين أن من يُحرّم الأخذَ من الشعر والظفر، مع قوله باستحباب الضحية، فهو في تناقُضِ ترتيبِ أحكامِه بعضِها على بعض: كمن يُوجِبُ التسوُّكَ لصلاة النافلة، مع أن التسوُّكَ عنده ليس شرطا لها ولا جزءًا من أجزائها (أي: ليس ركنًا من أركانها، ولا واجبًا من واجباتها). وكمن يُوجب أَكْلَةَ السَّحَر لصيام النافلة، مع أنها عنده ليست شرطًا له ولا جزءًا من أجزائه. وكمن يُوجِبُ في صيام عاشوراء المستحبِّ صيامَ يومٍ قبلَه أو بعدَه، مع أن صيامَ يومٍ قبلَه أو بعده (لمخالفة اليهود) ليس شرطا لصحة صيام عاشوراء ولا ركنا من أركانه.
وهذا بخلاف ما لو كان الأمرُ شرطا من شروط الصحة للنافلة، أو واجبًا من واجباتها، كالطهارة التي هي شرطٌ لصلاة النافلة، وكأداء أركان حج النافلة أو أركان صلاة النافلة وواجباتهما؛ فإن أداء هذه الشروط والأركان كله واجبٌ على من أراد الدخول في تلك النوافل أو شرع في أدائها، مع أن أصل تلك الأعمال (وهو حج النافلة أو صلاة النافلة) ليس واجبًا ابتداءً، لكن بعزم الدخول فيهما وجب تحقيقُ شروطهما، وبالشُّرُوع في أدائهما وجب أداء واجباتهما وأركانهما.
وبهذا نرد على اعتراض ابن حزم ، عندما رد على من بين دلالة هذا الخلل في ترتيب الوجوب على المستحب ، بمثل تلك الصور التي يكون فيها المستحب لا يصح إلا بشروط وواجبات ؛ لأننا نقول لابن حزم : لكن الأخذ من الشعر والظفر ليس من شروط الضحية ولا من واجباتها ، فلا يستويان . خاصة أن ابن حزم يرى استحباب الضحية ، بل يستدل للاستحباب بحديث : « «من كان له ذبح يذبحه فأهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» ، حيث قال ابن حزم : « فقوله - عليه السلام -: " فأراد أن يضحي"برهان بأن الأضحية مردودة إلى إرادة المسلم ، وما كان هكذا فليس فرضا» .
وبذلك يكون الراجح في الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد الضحية هو عدم التحريم، كما هو قول جمهور الأئمة . وأن أقصى ما يصل إليه الحكم هو أنه مكروه كراهة تنزيه ، وليس محرما ، كما هو مذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية والحنابلة.
والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
تاريخ النشر : 1435/07/19 هـ
جميع الحقوق محفوظة لموقع
فضيلة الشيخ الشريف حاتم بن عارف العوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق