البدعة في اصطلاح العلماء
هناك تعاريف كثيرة للبدعة عند العلماء فمن ذلك:
1 تعريف الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى المتوفى سنة 204ه:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً. فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: »نعمت البدعة هذه« يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى(1). وإسناده صحيح. وأخرجه من طريق آخر:أبو نعيم في حلية الأولياء(1) قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان: »نعمت البدعة هي«.
2 تعريف الحافظ علي بن محمد بن حزم رحمه الله، المتوفى سنة 456ه:
قال ابن حزم: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أن منها ما يُؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:
»نعمت البدعة هذه«. وهو ما كان فعل خير وجاء النص بعمومه استحباباً، وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. انتهى.
3 تعريف الإمام العز بن عبدالسلام الشافعي رحمه الله،المتوفى سنة 660 ه.
قال العز بن عبدالسلام:
البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى:
بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة، والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة: فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة. وللبدع الواجبة أمثلة:
أحدها: الاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
المثال الثاني: حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة.
المثال الثالث: تدوين أصول الفقه.
المثال الرابع: الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم.
وقد دلت قواعد الشريعة على أن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على القدر المتعين، ولا يتأتى حفظ الشريعة إلا بما ذكرناه.
وللبدع المحرمة أمثلة: منها مذهب القدرية، ومنها مذهب الجبرية، ومنها مذهب المرجئة، ومنها مذهب المجسمة. والردُّ على هؤلاء من البدع الواجبة.
وللبدع المندوبة أمثلة: منها: إحداث الرُّبُط والمدارس وبناء القناطر، ومنها كل إحسان لم يعهد في العصر الأول، ومنها صلاة التراويح، ومنها الكلام في دقائق التصوف، ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل للاستدلال في المسائل إذا قصد بذلك وجه الله سبحانه.
وللبدع المكروهة أمثلة: منها زخرفة المساجد، ومنها تزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي، فالأصح أنه من البدع المحرمة.
وللبدع المباحة أمثلة: منها المصافحة عقيب الصبح والعصر، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة، وتوسيع الأكمام، وقد يختلف في بعض ذلك، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة،ويجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بعده، وذلك كالاستعاذة والبسملة(1).
وتعريف العزِّ هذا تعريفٌ استنباطيٌّ يستندُ إلى أحكامٍ شرعية، فهو تعريفٌ جامعٌ ومانعٌ في بابه.
4 تعريف الإمام الغزالي المتوفى سنة 505ه:
قال حجة الإسلام الإمام الغزالي(1): البدعة قسمان: بدعة مذمومة وهي ما تصادم السنة القديمة ويكاد يفضي إلى تغييرها. وبدعة حسنة ما أحدث على مثال سبق. انتهى.
وقال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء أيضاً:وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما أبدع منهياً عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب.اه وتعريفه هذا جامعٌ مانعٌ وموجز.
5 تعريف الإمام المحدِّث عبدالرحمن بن الجوزي الحنبلي رحمه الله، المتوفى سنة 597.
قال ابن الجوزي: »البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: »اجمع القرآن«. كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال ابن الجوزي: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا مالم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا بفعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فقال: نعمت البدعة هذه. انتهى(1).
6 تعريف الإمام أبي شامة عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي الشافعي رحمه الله تعالى، المتوفى سنة 665ه.
البدعة: الحدث، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، مما فعله، أو أقر عليه، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير. وفي معنى ذلك: ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم مما أجمعوا عليه قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وكذا ما اختلفوا فيه،فإن اختلافهم رحمة مهما كان للاجتهاد والتردد مساغ، وليس لغيرهم إلا الاتباع دون الابتداع(1). وتعريفه هذا جامعٌ، وليس مانعاً؛ إذ فعلُ الصحابيِّ في عهد التنزيل يُعتبر إحداثاً، فإن أقرَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، صار سُنَّة، وبعد انقطاع الوحي أصبح إحداثهم بدعة حسنة مقيسة على الكتاب والسنة، فيعتبرُ سنة حسنة من وجهٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: »من سنَّ سُنَّةً حسنةً...«. الحديث.
فبهذا تقرَّر بأنه غير مانعٍ لورود ما ذكرنا عليه.
ثم قال أبو شامة(2): »ثم الحوادث منقسمة إلى بدع مستحسنة، وبدع مستقبحة. (ثم نقل قول الإمام الشافعي في البدعة، الذي تقدم، ثم قال:)
قلت: وإنما كان كذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على قيام شهر رمضان وفعله هو صلى الله عليه وسلم بالمسجد، واقتدى فيه بعض الصحابة، ليلة بعد أخرى، ثم ترك النبي صلى الله عليه وسلم فعلها بالمسجد جماعة وعلل ذلك بأنه خشي أن تفرض عليهم، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، فاتفق الصحابة على فعل قيام رمضان في المسجد جماعة، لما فيه من إحياء هذا الشعار الذي أمر به الشارع، وفعله، والحثّ عليه، والترغيب فيه، والله أعلم.
فالبدع الحسنة: متفق على جواز فعلها، والاستحباب لها، ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها، وهي كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها ولا يلزم من فعله محذور شرعي.
وقد عرَّفَ أبو شامة البدعة الحسنة في آخر كلامه كما ترى، وقوله: (متفق على جوازه) يعني به من يُقبلُ قولهُ في الإجماع، فخرج بذلك من يُرَدُّ قولُهُ كابن تيمية ومن على منهجه، فلا مسوِّغَ لمن ناقضَ هذا القول؛ لأنه خرقٌ لإجماع الأمة، وخرقُ الإجماع حرام.
7 تعريف الإمام ابن الأثير:
قال ابن الأثير رحمه الله: »البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال.. فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه أو رسوله فهو في حيز المدح، ومالم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: »من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها«... وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثَّل للبدعة الحسنة بقول عمر في صلاة التراويح: »نعمت البدعة« ثم قال: وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين«، وقوله: »اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر«، وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: »كل محدثة بدعة« إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة(1).
8 تعريف الإمام الحافظ محيي الدين النووي رحمه الله المتوفى سنة 676ه.
بَدَعَ: البدعة، بكسر الباء، في الشرع هي إحداث مالم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة. قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه في أنواع العلوم وبراعته، أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام رحمه الله ورضي عنه في آخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة أو المباح فمباحة.وللبدع الواجبة أمثلة ثم ساق كلام الإمام العز كاملاً كما تقدم.ثم قال:
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي رضي الله عنه قال: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما ما أحدث مما يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه البدع الضلالة.
والثانية ماأحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من العلماء وهذه محدثة غير مذمومة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإذا كانت ليس فيها رد لما مضى. هذا آخر كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه(1).
9 تعريف الحافظ الفقيه بدر الدين العيني رحمه الله المتوفى سنة885ه.
قال الإمام العيني في عمدة القاري(2): البدعة في الأصل إحداث أمر لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم البدعة على نوعين إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة. وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة.
10 تعريف الإمام السبكي:
قال السبكي (3): البدعة في الشرع إنما يراد بها الأمر الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيداً، فيقال: بدعة هدى، وبدعة ضلالة. انتهى.
11 تعريف الإمام الكرماني:
قال الكرماني في شرحه للبخاري: البدعة كل شيء عمل على غير مثال سابق، وهي خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة. وحديث »كل بدعة ضلالة« من العام المخصوص(1).
12 تعريف الشيخ عبدالحق الدهلوي:
قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في شرح المشكاة: اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة، وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة.
13 تعريف ابن تيمية:
ذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى تعريفاً للبدعة فقال: وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لا يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة(1).
وهذا التعريف ليس جامعاً ولا مانعاً ولا منضبطاً وليس فيه من البيان شيء ولا من فهم النصوص ما يدل على عمق قائله،فقد علمت التعاريف اللغوية للبدعة والتعاريف الشرعية، فأصبح من الواضح لديك بطلان هذا التعريف جملة وتفصيلاً، وانتقاده حداً ومعنى، وبناء على ركاكة هذا التعريف أخفق ابن تيمية الحراني في تأويل قول عمر رضي الله عنه: »نعمت البدعة هي«، وسيأتي بيان ذلك في موضعه.
14 تعريف السيد المحدِّث عبدالله بن الصدِّيق الغماري:
قال رحمه الله: البدعة الحسنة ما كانت على غير مثال سابق ولها أصل.
وقال في موضع آخر: البدعة الحسنة هي التي توافق أصول الشرع وإن كانت محدثة باعتبار شخصها، فهي مشروعة باعتبار نوعها لدخولها في قاعدة شرعية أو عموم آية أو حديث، ولهذا سميت حسنة. اه.
قلت: والتعريف جامع إلا أنه غير مانع،ولعلَّ أقربَ التعاريف إلى الصواب على ما نراه، هو ما سُقناه من كلام الإمام الغزالي والإمام السبكي رحمهما الله تعالى، فهذه التعاريف مؤيدة بالكتاب والسنة، كما ستعرفه في هذا الكتاب.
وأستنتج بعد هذا كله وأستخلص من ذلك تعريفاً أراه جامعاً مانعاً يفي بالغرض، فأقول: البدعة الحسنة: هي إظهار صورة مخصوصة لحالة مخصوصة ألحَّت الدواعي على إبرازها بالقياس الصحيح.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق