السبت، 18 نوفمبر 2017

الرد على شبهات المشككين :حول ذكرى الاحتفال بالمولد النبوي !

الرد على شبهات المشككين :
أدعياء السلفية يقولون : المولد ما فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) – ما فعله الصحابة – ما فعله التابعون. ولو كان خيراً لسبقونا إليه:
الجواب :
قال ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" :
"إن ما تركه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع قيام المقتضى له لا يجوز إحداثه لأن إحداثه من البدع .
قال: وأما ما رآه المسلمون من مصلحة إن كان لسبب أمر أحدث بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهاهنا يجوز إحداث ما تدع الحاجة إليه" اهـ .
ونحن نقول وبالله التوفيق:
إن ذكرى المولد لم يكن سبب يقتضي إقامتها في عهده ( صلى الله عليه وسلم )، أو في عهد القرون الثلاثة، حتى ولا التفكير في إقامتها، وإنما حدث الموجب لإقامتها بعد ذلك حين انصرفت النفوس عن الخير .
وقد سبق القول بأن إحياء الذكرى ذات هدف نبيل، وأسلوب غير مباشر للتذكر بما تم على يده ( صلى الله عليه وسلم ) من صنوف الخير، وسبب من أسباب استمالة القلوب واجتذاب النفوس إلى الخير والصلاح .
وفي عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعهد أصحابه كانت المشخصات تغني عن الذكريات، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعيش بين ظهراني أصحابه يتفقدهم بشخصه، ولا تلم بأحدهم شبهة إلا كشفها، ولا تنزل به غاشية إلا جلاها، ولا يحتك في صدر أي منهم نزعة أو يطرقه وسواس إلا كان عند الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دواؤه وشفاؤه، وكان يدخل في أنفسهم، وفي مسرى مشاعرهم، ومشارب تفكيرهم، فتعمر قلوبهم بالإيمان، ونفوسهم بالسكينة، وكانوا وهم بهذا الشعور يقطعون المسافات الطويلة بقلب مطمئن ، ونفس ساكنة .
وإنه بعد لحاقه ( صلى الله عليه وسلم ) بالرفيق الأعلى ظلت أفواههم رطبة ندية بسيرته العطرة، يتنسمون منها أرواح الهدى، ويتزودون بخير الزاد .
قلوبهم عامرة مشخصة لذكره ( صلى الله عليه وسلم ) وما تم على يده مما شاهدوه بأعينهم، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) مقياساً فصلاً في خواطرهم وآرائهم وأهوائهم ورغباتهم وخلجات نفسهم لا مكان في قلوبهم لهوى نفس .
وأنه لا سبيل بعد هذا كله أن يقال عن إقامة الذكرى: "ما فعلها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) – ما فعلها الصحابة – لو كانت خيراً لسبقونا إليه " ، اللهم إلا أن يقول ذلك من لا يعقل أن الذكريات التي تقام من أجل تحقيق تلك النتائج أو بعضها لا يفكر فيها إلا عندما تفقد المشخصات المبصرة بالعيون، أو عندما يضعف أثرها في القلوب حين يبعد العهد بها .
وكان يغني التابعين وتابعيهم عن التفكير في هذه الذكريات والحاجة إليها ما امتلأت به صدورهم من تلك السيرة العطرة ونتائجها مما شاهدوه من هدي الصحابة ومن بعدهم وما تلقوه منهم. فطبع جلهم على الصلاح لا يفارقون العلم وحلقاته، ويتنافسون في صقل نفوسهم وتزويدها بما ازدهر في عصرهم من علوم القرآن والحديث والسيرة والفقه والأخلاق .
فأنى لمثل هذه النفوس أن تفكر في إقامة الذكرى، بينما القلوب مشحونة بالاتباع، مشخصة فيها السيرة العطرة، وكأن أحداثها مبصرة بأعينهم .
وهذا بالإضافة إلى أن جو الصعيد الرسمي في العهد الأموي الذي كان يلعن فيه علي بن أبي طالب زوج فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، ويطارد أولادها ويقتلون: لم يكن يوحى للاحتفاء بذكرى تذكر الناس بما لهؤلاء من شأن .
وكذلك الحال في أوائل عهد الدولة العباسية يوم بدأت مطاردة أهل البيت العلوي، والجدل حول من هو أحق بميراث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الخلافة، هل هم بنو عمه أم بنو بنته فاطمة "وما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ممن يورث ولكنه التبرير لشهوة السلطان بأي سبيل" .
ونتيجةً لتأثر المجتمع الإسلامي مما فيه من أصناف الجماعات، وما دخل عليهم من الفتن ، وإطلال الأطماع والشهوات، وتنافس الناس على شؤون الدنيا والانشغال بها: قل من تسعدهم الأوقات بدراسة القرآن الكريم، ومد أيديهم إلى الكتب للاستبصار بسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والاستئناس بسيرة السلف الصالح .
وكلما تباعد الزمان ساءت الأمور ودعت الحاجة إلى ابتكار أسلوب يذكر الأمة بما هو عليه ( صلى الله عليه وسلم ) من صفات وشمائل، وما أفاض الله به من أنواع الخير كسبب للوقاية من الدعايات والمغريات التي يحارب بها أعداء الإسلام أمة الإسلام .
ولما كان أسلوب التوجيه المباشر هو أسلوب لا يقترب من النفس البشرية. لذا فاللجوء إلى الأساليب غير المباشرة أسلوب ناجح في الوصول إلى صدور الناس واستمالتهم إلى الخير والصلاح .
وانبثق عن هذا فكرة الاحتفاء بذكرى مولد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) للوصول إلى تلك النتائج إذ لا أسهل من الاجتماع في مناسبة على مجلس فيه ذكر وفيه تذكير لإيصال ما يراد إيصاله إلى أهله. وعلى هذا فلا سبيل إلى اعتراض المعترضين على الاحتفاء بهذه الذكرى .
وتنبهت الأمم الإسلامية في المشرق والمغرب إلى ما لهذا الأسلوب من آثار في الوصول إلى صدور الناس وإثارة للعواطف الكريمة التي تثيرها تلك الذكرى وما تحمله من شكر المولى عز وجل على ما من به من إيجاده ( صلى الله عليه وسلم )، وما تنميه في قلوب الأمة من تعظيم لقدر هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم )، وإظهار الفرح والسرور بمولده والعرفان لما فاض من طلعته الميمونة في إنارة الطريق وشحن القلوب بجلاله ومحبته وتعظيمه ( صلى الله عليه وسلم )، كلما تجددت تلك الذكرى، فكان فيها جلاء لصدأ القلوب، وجلوس لمجلس خير، يتحقق فيه مبرات وصلات وذكر وقراءة قرآن وإشاعة لسيرته ( صلى الله عليه وسلم )، وكثرة صلاة وتسليم عليه، ومدحه وغرس لحبه الذي لا يتحقق الإيمان إلا به .
وحسب هذا المجلس بركة ما يشاهد فيه من امتلاء القلوب بالخشية، وتذلل الوجه بالضراعة، ورفع الأيدي بالرجاء، واشتغال الألسن بالدعاء، وانكسار النفوس بالتذلل، وصدق الآمال في أرحم الراحمين، وليس في استدرار الرحمة مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد وصعيد واحد، فلا بدع أن عم الجمع الرحمة ونال بعضهم بركة بعض، ووهب الله مسيئهم لمحسنهم، وطالحهم لصالحهم كما هو الحال في كل اجتماع شرعه الله كالوقوف بعرفات والجماعات والجمع والعيدين وغيرها، وكما هو الحال يوم المحشر الذي تزدحم فيه الخلائق فينال المؤمنين فيه بركات الرسل والأنبياء وعباد الله الصالحين .
فنهج ملوك الدول السلامية وشعوبها على المواظبة على الاحتفال بهذه الذكرى لهذه الغايات .
وكان أكثر الأمم احتفالاً بها بعد مصر : الشام الجزيرة والموصل واليمن وإفريقيا والمغرب والأندلس .
وحتى بعد قضاء صلاح الدين في سنة 567 على الدلة الفاطمية
وانصرافه إلى الاستعداد المستمر لرد غارات الصليبيين لم يحل ذلك دون مواصلة الشعب للاحتفاء بهذه الذكرى حتى إن الملك المظفر أبو سعيد ملك إربل المتوفي سنة 630 وهو أمير تابع لصلاح الدين، وصهره زوج أخته حافظ على الاحتفاء بهذه الذكرى وألف له الحافظ ابن دحية المتوفى سنة 633 حين مر على إربل سنة 604 كتاباً في المولد سماه: "التنوير في مولد البشير النذير" حسن فيه الاحتفال وأقام على ذلك وجوه الاستدلال .
واستمر عمل المولد في سائر أقطار الإسلام على مستوى الحكومات والشعوب منذ نشأت في سنة 362إلى اليوم وتطورت مظاهر الاحتفال بذكراه حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن مما سبق ذكره.
قال السخاوي: ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ويعملون الولائم ويتصدقون في ليلته بأنواع من الصدقات .
وليس المهم من فعله من الحكام أو الشعوب، وإنما من طالع الوفيات وكتب الطبقات والتاريخ يعلم أن القرن الرابع والخامس والسادس والسابع كان زاهراً بالعلماء، ومع ذلك لم ينقل عن أحد منهم إنكاراً على إقامته حتى جاء ابن تيمية المتوفى أوائل القرن الثامن سنة 728 فأنكر فعله شاذاً عن الجمهور .
وإن المرء يستغرب عده المولد من المحدثات الممنوعة مع ما نقلناه عنه أن للمسلمين إحداث ما تقضي به المصلحة وتدعو إليه الحاجة من الأمور التي لم يكن المقتضي لها قائماً في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا في عهد أصحابه .
فهل كان الصحابة في عهده ( صلى الله عليه وسلم ) وبعد عهده في حاجة إلى إقامة ذكريات تشحذ عزائمهم إلى الاتباع والتعظيم والمحبة وعندهم المشخصات التي شاهدوها بأعينهم، وبقيت حيةً في قلوبهم بعد وفاته ( صلى الله عليه وسلم )، تلقنها التابعون مشافهةً عملاً وعلماً .
ولم يقل بقول ابن تيمية في بدعة المولد إلا فئة تأثرت بأقواله من معاصريه وبعدهم ، كابن الحاج المتوفي سنة 733، والفاكهاني المتوفى سنة 734، والشاطبي المتوفى سنة 790 لما شبه لهم أنه عبادة وإحداث في الدين وزيادة فيه، وفاتهم أن المولد هو أسلوب اجتماعي لتحقيق أغراض دينية مشروعة، فخلطوا بين الأسلوب وبين ما قصد به من تحقيق غايات دينية مشروعة .
ولم يلتفت جماهير العلماء إلى إنكارهم بل المنقول عن جل العلماء وسوادهم الأعظم تحبيذه والتأليف فيه وحضور مجالسه .
قال أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحواد" مادحاً لهذا العمل: "وإنه يحسن ويندب إليه ويشكر فاعله ويثني عليه"اهـ .
والمهم بيانه: إن المقتضي لإقامة الاجتماع لذكرى المولد لم يكن قائماً في عهده ( صلى الله عليه وسلم ) ولا عهد أصحابه كما ذكرناه عن الصحابة ثم التابعين، من عمران القلوب بهديه ( صلى الله عليه وسلم )، حيث أغنت المشخصات عن إقامة الذكريات .
أما حين بَعُدَ العهد وانشغل الناس بالدنيا عن الدراسة والاستبصار بسيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصدأت القلوب، فلا حرج على من اتخذ أسلوباً للوصول إلى صدور الناس في جلاء الصدأ، وليس أنسب من اختيار يوم ميلاده لتشخيص ذكراه في القلوب، واستعراض بعض ما جاء به ترقيقاً للقلوب بأسلوب غير مباشر ، يقرب من النفس البشرية .
فلا سبيل إلى الاعتراض على الاحتفاء بهذه الذكرى لما تحققه من غاية نبيلة سبق ذكرها ... والله الهادي إلى سواء السبيل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق