أقوال علماء الإسلام في البدعة الحسنة وأدلتهم في ذلك
قد ذهب إلى هذا القول جمهرة من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين، محدثين وفقهاء وأصوليين، فممن ذهب إليه:
1 ـ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
فقد قال رحمه الله: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة ...
وأخرجه من طريق أخر أبو نعيم في حلية الأولياء قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم.
2 ـ ابن حزم الظاهري رحمه الله:
فقد قال: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: »نعمت البدعة هذه« وهو ما كان فعل خير جاء النص بعمومه استحباباً وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. انتهى.
3ـ الإمام الغزالي:
حيث قال في معرض كلامه عن نقط القرآن وتجزيئه:
ولا يمنع من ذلك كونه محدثاً، فكم من محدث حسن، كما قيل في إقامة الجماعات في التراويح: إنها من محدثات عمر رضي الله عنه، وإنها بدعة حسنة، إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها .
4ـ الإمام العز بن عبدالسلام:
حيث يعرف البدعة بقوله: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة .. إلى آخر كلامه كما تقدم.
ولا يحصى كم تابع الإمام العز على تقسيمه هذا للبدعة من العلماء والأئمة من تلامذته كالإمام القرافي، ومن غيرهم كالإمام النووي والإمام السيوطي والإمام الزرقاني والكرماني وابن عابدين الشامي، وغيرهم ممن يصعب حصرهم وعدهم، رحمهم الله أجمعين.
5 ـ الإمام الحافظ ابن العربي المالكي:
حيث يقول في شرحه على سنن الترمذي ما نصه: اعلموا علمكم الله أن المحدثات على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعاً. ومحدث بحمل النظير على النظير، فهذه سنة الخلفاء، والأئمة الفضلاء، وليس المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة ولا لمعناها، فقد قال تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقال عمر:»نعمت البدعة هذه« وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة. انتهى.
6 ـ العلامة ابن الأثير الجزري:
فقد قال في كتابه النهاية في غريب الحديث: البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر اللـه به ورســـوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض الله عليه أو رسوله فهو في حيز المدح. وما لم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: »من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها« وقال ضده: »من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها« وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال: وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: »وكل محدثة بدعة« يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.
7 ـ الإمام ابن الجوزي:
حيث قال : البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء ولا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها، فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل، وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: اجمع القرآن: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم قال: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن ، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا فعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فرآهم فقال:نعمت البدعة هذه .
8 ـ الإمام شهاب الدين أبو شامة:
حيث عرف البدعة في كتابه »الباعث على إنكار البدع والحوادث« بقوله:
كل ما هو مخترع من غير أصل سبق، وهو مالم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مما فعله أو أقرَّ به، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير، وفي ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم، وعلى هذا فالحوادث منقسمة إلى بدعة مستحسنة، وهي ما وافق السنة، وإلى بدعة مستقبحة وهي ما خالف السنة.
9 ـ الإمام النووي:
حيث عرف البدعة بقوله: البدعة ـ بكسر الباء ـ في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته العز بن عبدالسلام. ثم ساق كلام العز المتقدم.
10 ـ الإمام العيني:
وقد عرف البدعة بقوله: البدعة ـ لغة ـ كل شيء على غير مثال سابق. وشرعاً: إحداث مالم يكن له أصل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي على قسمين: بدعة ضلالة، وبدعة حسنة، وهي ما رآه المسلمون حسناً، ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة والإجماع.
11 ـ الإمام الكرماني:
حيث قال في شرحه للبخاري:
»البدعة« كل شيء عمل على غير مثال سبق، وهي خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة ومكروهة ومباحة، وحديث »كل بدعة ضلالة« من العام المخصوص.
12 ـ الإمام الزرقاني:
حيث قال في شرحه على موطأ الإمام مالك عند قول عمر »نعمت البدعة هذه« قال: وصفها بـ(نعمت) لأن أصل ما فعله سنة، وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة. وقال ابن عمر في صلاة الضحى: نعمت البدعة، وقال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وأما ابتداع الأشياء في عمل الدنيا فمباح. قاله ابن عبدالبر ... إلى أن ذكر تقسيمها إلى الأحكام الخمسة اتباعاً للإمام العز بن عبدالسلام.
وغير هؤلاء من الأئمة والعلماء كثيرون نسجوا على منوالهم، وذهبوا إلى مثل ما ذهبوا إليه، ممن يطول ذكرهم ولا يخرج كلامهم في الجملة عن كلام من سقناهم هنا، فلا نطيل بذكرهم. ونشرع الآن في ذكر أدلتهم وحججهم على ما ذهبوا إليه، فنقول وبالله التوفيق:
أدلتهم من القرآن:
قال الصحابي أبو أمامة رضي الله عنه: إن اللّه فرض عليكم صوم رمضان ولم يفرض عليكم قيامه، وإنما قيامه أحدثتموه، فدوموا عليه، فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة فعابهم الله بتركها فقال: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.انتهى
فالآية ما عابت أولئك الناس على ابتداع الرهبانية لأنهم قصدوا بها رضوان الله، بل عابت الآيةُ عليهم أنهم لم يرعوها حق رعايتها، وهذا يفيد مشروعية البدعة الحسنة، فما استنبطه الصحابي أبو أمامة صحيح لا غبار عليه.
وقد تقدم الكلام في تفسير الآية مستوفى.
2) الأدلة على البدعة الحسنة من السنة والآثار:
1ـ عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: »من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء«.
قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: »سنة حسنة« أي طريقة مرضية يُقتَدى بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها.اهـ.
2 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من استن خيراً فاستُن به كان له أجره كاملاً ومن أجور من استن به، لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن استن سنة سيئة فاستُن به، فعليه وزره كاملاً ومن أوزار الذي استن به لا ينقص من أوزارهم شيئاً« .
3 ـ عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من سن سنة حسنة فعمل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً«.
4 ـ عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من سن خيراً فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئاً، ومن سن شراً فاستُن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً«.
5 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهورد«.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الأمور المحدثة الموافقة للشرع مقبولة، والمخالفة للشرع مردودة، والدليل واضح كالشمس. فهذه الأحاديث تُثْبت وجود البدعة الحسنة والبدعة السيئة، فمعنى »من سن سنة حسنة« أي اخترع طريقة أو أمراً في الدين موافقاً للشرع. ومعنى: »من سنة سنة سيئة« أي من اخترع أمراً في الدين مخالفاً للشرع.
ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحدثه الصحابة واخترعوه بأنه »سنة« فقال: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين« فإحداث الصحابة أمراً ليس إلا صورة عما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة ما أحدثه الصحابة هو اختراع في الدين، ولكن لما كان موافقاً للشرع كان حسناً، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم »سنة« ويطلق عليه »بدعة حسنة« كما قال سيدنا عمر في اجتماع الناس على التراويح: »نعمت البدعة هذه« رواه البخاري. ومن حمل قوله »البدعة« على البدعة اللغوية فقد أخطأ، لأن الصحابة لما كانوا يطلقون قولهم: »هذا العمل بدعة« فإنهم يقصدون البدعة الشرعية لا اللغوية، ولم يكن هذا الإطلاق »البدعة اللغوية« معهوداً عند الصحابة، والمقام مقام الكلام على صلاة التراويح وهي من أمور الشرع.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاء« أي عليكم بمنهجيتي وطريقتي ومنهجية أصحابي وطريقتهم.
فسنة الصحابة سنة قياسية، إذن هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من جاء بعد الصحابة من العلماء الربانيين سنتهم الموافقة للشرع سنة قياسية، وهي سنة النبي صلى الله عليه وســـلم، وقد أخذوا الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:»من سن سنة حسنة«. وحَصْرُ اختراع السنة في السلف جمود ظاهر تأباه النصوص، فكل سنة قياسية هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث »كل بدعة ضلالة« فهو عام مخصوص خصصه الحديث الصحيح »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فلو كانت كل بدعة ضلالة بلا استثناء ولا تخصيص لقال النبي صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا شيئاً فهو رد« ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فأفاد صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن من أحدث في أمر الدين ما هو منه فليس برد، وهذا تقسيم صريح للبدعة إلى حسنة وسيئة.
وفي رواية للبغوي: »من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد«. وفي رواية لمسلم: »من صنع أمراً على غير أمرنا فهو رد«.
وأفاد هذا الحديث برواياته ما يلي:
أ ـ جواز إحداث البدعة الحسنة إذا كانت موافقة لأصل من أصول الدين.
ب ـ عدم جواز إحداث البدعة إذا كانت مخالفة لأصل الشرع، يؤخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: »أمرنا« و»ديننا« فهو شامل لكل المحدثات سواء كانت من العبادات أو المعاملات أو غير ذلك، لأن كلمة »ديننا« و»أمرنا« كلمة عامة، فكل ما له أصل عام فهو مقبول يندرج تحت البدعة الحسنة، وكل ما ليس له أصل عام فهو مردود من البدع السيئة، وهذا نص الحديث ينطق بالحق.
جـ ـ يؤخذ من الحديث جواز فعل وإحداث أمور لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يشترط في كل فعل أن يكون موجوداً في عهد السلف.
6 ـ قال سيدنا عمر رضي الله عنه في اجتماع الناس على صلاة التراويح: »نعم البدعة هذه« .
ونعم كلمة مدح، والمقام مقام شرع لا مقام لغة، ولذلك احتج الإمام المجتهد اللغوي الحجة محمد بن إدريس الشافعي بهذا الحديث على تقسيم البدعة إلى بدعة محمودة، وبدعة مذمومة.
فانظر إلى قول الشافعي المولود (150هـ) حيث جعل من البدع الحسنة الأمور المحدثة من الخير، ولا خلاف في هذه الأمور لكتاب ولا لسنة ولا لإجماع، وليس في هذه الأمور رد للنصوص. وليس في عمل الشيء المتروك في العهد النبوي (مخالفة) أو(رد) لنصوص الشرع، فلم يعبر أحد من العقلاء بـ(الترك) عن المخالفة والمناقضة للنصوص.
فتقسيم الشافعي للبدعة إنما هو للبدعة الشرعية وهو واضح وجلي، واحتج على ذلك بقول سيدنا عمر. والذين حصروا البدعة بــ (البدعة المذمومة) لم يجدوا مصرفاً كما قال العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره. وتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة هو رأي الجمهور وهو الصحيح كما قال العلامة ابن الشاط في تهذيب الفروق، وهو التحقيق كما قال العلامة الشوكاني في نيل الأوطار.
وقد استدل بعض الناس بأن كل مالم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه فهو بدعة. وهذا قول خطير جداً يهدم شطراً عظيماً من الدين، فكم من محدثات حدثت في عهد الخلفاء، ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، وأقروها لأنها تندرج تحت أصل عام من أصول الشريعة.
وليس الترك حجة ولا دليلاً على المنع والتحريم، كما هو معلوم في أصول الفقه وقواعد الشريعة، فإن الترك قد يكون للتحريم، وقد يكون للكراهة، وقد يكون للإباحة، إلى غير ذلك، كما بسطنا الكلام فيه سابقاً. وأكبر دليل على رد هذا الافتراء أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ما أحدثه الخلفاء »سنة« مع أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان مندرجاً تحت أصل من أصول الشرع صار مقبولاً، ويرد على المخالفين قوله صلى الله عليه وسلم:»من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« فمفهومه أن من أحدث في أمرنا وديننا هذا ما هو منه فهو مقبول، لأنه مندرج تحت أصل من أصول الشرع، فهناك محدثات ليست من الدين فهي مردودة، وهناك محدثات من الدين فهي مقبولة. فالإحداث مستمد أصله من السنة التقريرية كما تقدم.
7 ـ وقال الإمام التابعي مجاهد بن جبر رحمه الله:
دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا نحن بعبدالله بن عمر، فجالساناه، قال: فإذا رجال يصلون الضحى، فقلنا: يا أبا عبدالرحمن، ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة، فقلنا له: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعاً، إحداهن في رجب. قال: فاستحيينا أن نرد عليه، قال: فسمعنا استنان أم المؤمنين عائشة، فقال لها عروة بن الزبير: يا أم المؤمنين، ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن؟! يقول: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً، إحداهن في رجب؟! فقالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن، أما إنه لم يعتمر عمرة إلا وهو شاهدها، وما اعتمر شيئاً في رجب.
وقد قصد سيدنا عبدالله بن عمر من قوله (بدعة) البدعة الشرعية الحسنة، ودليل ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى؟ فقال: بدعة ونعمت البدعة. وله طريق آخر.
وما رواه عبدالرزاق بإسناد صحيح عن سالم ابن عبدالله عن أبيه عبدالله بن عمر قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها (يعني ما أحد يصلي صلاة الضحى) وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها.
وقد صحح هذه الأسانيد الحافظ ابن حجر .
وفي قوله رضي الله عنه : »ونعمت البدعة« وقوله: »ما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها« دليل واضح وناصع على أن مقصوده من البدعة البدعة الحسنة؛ لأنه أطلقها على صلاة الضحى، وجعلها من المحدثات المحببة إليه، ولا معنى البتة لحمل البدعة هنا على المعنى اللغوي.
ومن حمل قول سيدنا عمر وابنه عبدالله: »نعمت البدعة« على البدعة اللغوية فقد أخطأ. وتشديدُ بعض الناس وإصرارهم على هذا القول يوقع الصحابة الكرام بأمر خطير، وذلك لأن حملهم البدعة هنا على المعنى اللغوي يجعلهم يعُدُّون ما فعله سيدنا عمر ووافقه عليه الصحابة أمراً منكراً وبدعة ضلالة؛ لأن هؤلاء المصرين يجعلون كل بدعة ضلالة، وصلاة الصحابة التراويح جماعة إما أن يكون حسناً في الشرع أو سيئاً، فأما كونه سيئاً، فهو قول أهل البدع، وأما كونه حسناً فهو إجماع الأمة.
ومما يؤكد أن قول سيدنا عمرو ابنه: »نعمت البدعة« مراده البدعة الحسنة استناد الإمام الشافعي رحمه الله في تقسيمه البدعة إلى حسنة وسيئة إليه، كما مر آنفاً، ومعلوم أن الشافعي رحمه الله من أئمة اللغة ومن المجتهدين في الشرع.
وإنه رحمه الله قد قسَّم ههنا الأمور الشرعية لا اللغوية، واستشهاد الشافعي بفعل سيدنا عمر على البدعة الحسنة، قاطع، وناسف لقول من يقول:المقصود البدعة اللغوية.
ثم إن سؤالاً يطرح على المعترضين:
ماذا تقولون بفعل الصحابة وصلاتهم عشرين ركعة جماعة هل هو من البدع أم من السنن، فإن قلتم: من البدع المنكرة، فقد هلكتم وطعنتم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »عليكم بسنتي وسنة الخلفاءالراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ«.
وإن قلتم: فعلهم من السنن ولكن لا يقال: بدعة حسنة، وإنما سنة حسنة. فنقول: لا مشاحة في الاصطلاحات. وعليكم أن تقروا بكل فعل ليس معارضاً لأصول الشريعة وتسموه سنة حسنة.
ثم إن الصحابة كانوا يسألون أحياناً عن بعض الأمور المذمومة، فيقولون: (بدعة).
فترى المشاغبين يحملون هذا القول على البدعة الضلالة ويجعلونها بدعة شرعية. وعندما أطلقها الصحابة على الأمور المحمودة رأينا المشاغبين حملوها على المعنى اللغوي فقالوا: (بدعة لغوية) فسبحان الله على هذا التناقض؟!
الرأي الذي نرجِّحُهُ
بعد هذا العرض الذي سقناه لآراء العلماء، وأدلة كل منهم فيما ذهبوا إليه، وبعد النظر في الأدلة العامة، وإطلاقات السلف لكلمة البدعة على ما عرض لهم من أمور، وما استجد في حياتهم من وقائع، نخلص إلى رأي ارتأيناه في هذه القضية، هو فيما نعتقد أقرب للصواب، وأوفق للأدلة وإطلاقات السلف والعلماء، نعرضه فيما يأتي، ومن الله سبحانه نستمد التوفيق والسداد، فنقول:
إن البدعة الحسنة ثابتة بإثبات الشرع لها، فيما قدمناه من أدلة الجمهور الذين ذهبوا إلى إثباتها، فمذهبهم هو المذهب الراجح في هذه القضية؛ لقوة أدلتهم التي ساقوها واستدلوا بها، مع ما يتطرق من الاحتمالات والاعتراضات على أدلة خصومهم كما قدمناه آنفاً، بيد أن الأعم والأغلب في إطلاقات لفظ البدعة عند السلف، إنما كان في ما يقابل السنة من البدع السيئة الضالّة، حتى شاع على لسانهم إطلاق كلمة البدعة في الشيء الحادث الذي يصادم أصول الشريعة وأدلتها العامة، أو يكون فيه إبطال لسنة، أو تضييع لفريضة، كما شاع على ألسنتهم إطلاق لفظ المبتدع على أرباب هذه الحوادث والبدع، وشاع أيضاً إطلاق لفظ المبتدعة على الفرق الخارجة عن نهج أهل السنة والجماعة ، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في شرح الشفا: البدعة إذا أطلقت يراد بها السيئة. وقال ابن الأثير: وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم.
وقد قدمنا بعض إطلاقاتهم تلك فيما سقناه من أدلة النافين للبدعة الحسنة. ولربما كان ذلك أكبر دافع وحافز لنفاة البدعة الحسنة على ما ذهبوا إليه، لكن ذلك كله لا يعني عدم وجود البدعة الحسنة عندهم، بل هي ثابتة لديهم مستعملة عندهم، كما رأيناها في إطلاق سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في قضية جمع الناس في صلاة التراويح، وإطلاق سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما في صلاة الضحى، حيث جاءت في معرض المدح والإثبات،وحيث إن الأولى والأحكم والأصح حملها على البدعة الشرعية لا اللغوية كما قدمناه، من أجل ذلك كله نرى أن البدعة الحسنة موجودة وثابتة ليس في ذلك شك ولا ريب، بيد أنها في لسان سلفنا الصالح إن أطلقت فلم تقيد بوصف، أو قيدت بوصف سوء أو ضلالة فهي البدعة الضلالة السيئة، ولا تكون بدعة حسنة إلا إن قيدت بوصف الحسن أو جاءت في معرض المدح. هذا ما نذهب إليه ونعتقده، وقد رأينا الإمام السبكي قد ذهب إلى مثل ذلك، حيث نقل عنه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ذلك فقال:
قال التقي السبكي: هو باعتبار المعنى اللغوي، فإن البدعة في اللغة هو الشيء الحادث، وأما في الشرع فإذا أطلق إنما يراد الحادث الذي لا أصل له في الشرع، وقد يطلق مقيداً فيقال: بدعة هدى وبدعة ضـلالة، فالـــتراويح على هــذا من بدعة الــهدى، وكيف يريد عمر خلاف ذلك، ويأمر بها؟! معاذ الله. انتهى.
ثم وجدت الشيخ عزت عطية قد ذهب إلى قريب من ذلك أيضاً، حيث قال: أما كلام سيدنا عمر وأبي أمامة وعبدالله بن عمر فليس فيه ما يعتبر أن لفظ البدعة بمجرده يطلق في الشرع على ما هو حسن، وكل ما يفيد مثل هذا الكلام هو أن البدعة في نظر الشرع، إذا أطلقت عن التقييد بوصف أو إضافة أو غيرهما لا تدل إلا على ما هو مخالف للشرع، ولا يقصد بها غير ذلك فيه. أما إذا قصد بها ما يتناوله لفظ بدعة من ناحية اللغة وهو مطلق المحدث حسناً كان أو سيئاً، وعُبر بها عما هو موافق للشرع، فلا بد حينئذ من وصفها أو تقييدها بما يفيد حسنها صراحة أو بالمفهوم، تمييزاً لها من مطلق البدعة في نظر الشرع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق