إخراج زكاة الفطر نقدًا....
في كل عام يختلف المختلفون حول إخراج القيمة في زكاة الفطر، فنرى بعض المتشددين يوجبون في زماننا هذا إخراج الشعير أو القمح زكاة!!!!
ولكن مما لا شكّ فيه أنّ الأفضل والأيسر للفقير والمزكي إخراج القيمة نقودا، لأن العلة من فرض الزكاة هو إغناء الفقراء في هذا اليوم فمتى تحقق الإغناء كان ذلك هو الأولى.
وإليك الفتوى بالتفصيل لفضيلة الشيخ الدكتور مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ أستاذ الشريعة بجامعات سوريا:
ثَبَتَ عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه أخرَج وأمَرَ بأن يُخرِجَ مَن كان مقتدرًا زكاةً عن فطره في آخر رمضان ـ بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد ـ مقدارُها عن نفسه وعن كل فرد تحت ولايته ومئونته صاعٌ من البُرِّ (القمح)، أو نصفُ صاع منه، بحسب اختلاف الرواية، أو صاع من الشعير أو من التمر أو الزبيب أو الأَقِط وذلك معونة للفقراء بمناسبة عيد الفطر عَقِبَ شهر الصيام.
ورُوِيَ أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قال: "أغنوهم في هذا اليوم". ولم يُنْقَلْ في ذلك خلافٌ يعرف في الصدر الأول من الإسلام بين الصَّحابة والتابعين، فكان الناس يخرجون زكاة فطرهم ممّا يتيسَّر لهم من هذه الأموال الغذائية الخمسة سوى ما نُقل من اختلافهم بالنسبة إلى البُرِّ (القمح) بسب اختلاف الرواية فيه: هل يُخرج منه نصفَ صاع أو صاعًا كاملاً كالشَّعير؟
وواضح جدًّا من قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: "أغْنُوهم في هذا اليوم"أن المقصودَ الأساسيَّ من هذه العبادة المالية هو إغناء الفقير في هذا اليوم، يوم الفرحة والسرور، وليس المقصود نوعًا أو أنواعًا معينةً بذاتها من الأموال، بدليل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جمع بين خمسة أنواع من الأطعمة الميسورة للناس في ذلك الوقت مختلفة الوظائف: فمنها غذاء أساسي لسدِّ الجوع، ومنها ما هو للتحلية والتَّسلية في يوم الفرحة كالزَّبيب.
ثُمَّ ما إِنْ نشأت المذاهب الفقهية، وتكوَّنت حولها الأتباع، حتى بدأ التَّرف العلمي يَذُرُّ قَرْنُه، ويمسك بنقاط فرعيةٍ في الموضوع يَقف عندها، ويتشدَّد فيها، ويربط بها أصل العبادة بتأويل يتمسك به، ولا يرى وجهًا لخلافه، وينسَى حكمة الشارع من الأحكام، وينسَى التمييز بين الوسائل والغايات، بل يعطي الوسائل غير المقصودة بالذات أكثرَ مما يعطي الغايات الشرعية الثابتة من الأهمية !!
فوُجد مَن قال من أهل المذاهب: لا يجوز أن تُخرَج زكاة الفطر إلا من هذه الأرزاق الخمسة عينًا، ولا يصح منه إعطاءُ الفقراء قيمتَها من الدراهم والدنانير.
وحجتهم في ذلك أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، وأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم التعليل، فيجب الوقوف عند حدود النص، ولا يجري فيها القياس والاستحسان والاستصلاح. وقد كانت الدراهم والدنانير موجودة وقت التشريع ولم يذكرهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه أخرجها بالدراهم أو الدنانير، ولو أنه حَصَل لَنُقِلَ؛ لذلك لا تصحُّ زكاة الفطر في نظرهم إلا من هذه الأعيان.والجواب: عن هذه الحجة واضح للمتأمل: هو أن زكاة الفطر من أصلها هي معقولة المَعنى، مثل زكاة الأموال التي هي مئونة وتكليف مالي اجتماعي لمصلحة الفقراء، الذين يجب أن ينهَض بهم الأغنياء، فلا يكون المجتمع الإسلامي قسمين ولا وسط بينهما: قسمَ الأغنياء المَتخومين، وقسمَ الفُقراء المحرومين.
فتشريع زكاة الفطر وزكاة الأموال معقول المعنى، ويجب عند الاشتباه النظر إلى ما هو أنفع للفقير، أو أيسر على المكلف، وليس مثل عدد ركعات الصلوات توقيفًا محضًّا لا دخل للعقل فيه، بل الفارق بينه وبين عدد الرَّكَعَات فارِق عَظيمٌ .
ألا ترى أن تحديد المقادير في زكاة الفطر بإجماع المذاهب إنما هو تَحديد للحدِّ الأدنى الذي لا يصح أقلُّ منه، ولو زادَ المكلَّف فيه فأعْطَى أكثرَ منه فله فَضل ثَواب، بينما لو زادَ المصلِّي فِي ركعات فَريضة الصلاة لا يجوز له ولا يُقبل منه؟!
على أن زكاة الفِطر قد جاء في الحديث النبوي نفسه تعليلها معها، فقد بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكمتَها وغايتَها وسبب إيجابها حين قال: "أغنوهم في هذا اليوم" وأصل الإغناء يكون بالنقود التي تصلُح لجلب جميع الحاجات من أغذية وغيرها.
وأما أنَّ النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يذكر الدنانير والدراهم في زكاة الفطر، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه أخرجَ بها، فذلك سببه أنها كانت قليلةً في ذلك الوقت لا يَتوافَر منها إلا القليل لدى القليل من الناس، ومعظم أموالِهم التي كانوا يتداوَلونها ويتبادلون بها كأنَّها نقود، قد كانت هذه الأنواع الغذائية التي وردت في حديث زكاة الفطر، وأنواع الأنعام لدى أهل البوادي من الإبل والغَنم والبقر.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يتعبَّدْنا بشيء من أنواع الأموال أو الأغذية على سبيل التعيين والتخصيص، تحت طائلة البُطلان لو قدَّمنا في الواجبات المالية غيرَها، وإنما تعبَّدَنا بالمالية المطلَقة، وبمقاديرَ محدَّدةٍ منها؛ لأنها هي ذات الاعتبار الثابت لدى جميع البشر، وفي جميع الأزمنة. فربح التاجر وخسارته مثلاً لا يرتبطان بنوع معين من أمواله إذا زاد أو نَقَص، وإنما يرتبطان بمجموع ما عنده من أنواع المال ذات القيمة أيًّا كانت.
إن زكاة الأموال ـ وهي أعظم عبادة مالية في تكاليف الإسلام، مع أن الله تعالى قال فيها: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا..)، التوبة: 103 ممّا يُشعِر ظاهرُه أنها يجب أن تؤخَذ من عين المال المُرادِ تزكيته ـ يصحُّ بالإجماع أن يخرج الإنسان ما يعادِل قيمتَها من النقود، بل من مال آخرَ لديه؛ لأن مقصودَ الزكاة أن يتخلى المكلَّف عن قدر من ثروتِه محدد إلى الفقراء كيلا يبقَى المجتمع الإسلامي ـ كما سبق بيانه ـ متكوِّنًا من مَتخومين ومحرومين. وأفضل ما يتخلَّى عنه المكلَّف من ثروته لمصلحة الفقراء هو النقودُ، التي يستطيع بها الفقير وفاءَ جميع حاجاته، وتحصيلها بكلِّ يسر، في حين لو اجتمع لديه مجموعة من الأرزاق بأعيانها لا يستطيع أن يستفيدَ منها ما يستفيد من النقود. على أن المزكِّيَ لو أرادَ أن يُخرج زكاتَه من أعيان المال الذي عنده لكان مقبولاً منه؛ لأنه قد يكون هو الأيسر عليه، وأن سياسة الإسلام التيسيرُ على المكلَّف.
إخراج زكاة الفطر نقدًا
عبد الرحمن بن عوض القرني | 24/9/1430 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
فقد اختلف أهل العلم في حكم إخراج زكاة الفطر نقدا على قولين :-
الأول :عدم الجواز وهو مذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة ودليلهم أنه لم يرد نص بذلك والأصل الوقوف عند ما ورد وإخراج الحبوب (1).
الثاني :جواز إخراجها نقدا إما على الإطلاق وهو مذهب الأحناف(2) والبخاري(3) وقول عمر بن عبدالعزيز والحسن البصري وغيرهم(4) أو مع التقييد بالحاجة وهو رواية عند الحنابلة اختارها ابن تيمية (5).
ولهم أدلة منها حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: « فَرَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ : عَلَى الْعَبْدِ ، وَالْحُرِّ ، وَالذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ، وَالصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ» متفق عليه(6).
وفي رواية « أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم ».
أخرج هذه الرواية ابن عدي(7) والدارقطني(8) والبيهقي(9) والحاكم(10) وابن زنجويه « في الأموال »(11) وابن حزم(12) جميعهم من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- بنفس حديث ابن عمر السابق وفي آخره « أغنوهم في هذا اليوم » أو « أغنوهم من طواف هذا اليوم » كما هو لفظ الحاكم والبيهقي.
والحديث مداره على أبي معشر نجيح بن عبدالرحمن السندي وقد ضعفه غير واحد؛ فقال أحمد: حديثه عندي مضطرب الإسناد ولكن أكتب حديثه أعتبر به.
وقال يحيى بن معين: كان أميًّا ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال النسائي و أبو داود: ضعيف الحديث(13).
وبالغ ابن حزم فقال: أبو معشر هذا نجيح مطّرح الحديث يحدّث بالموضوعات عن نافع وغيره »(14).
وللحديث شاهد وطريق آخر أخرجه ابن سعد في « الطبقات »(15) فقال: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الجمحي، عن الزهري، عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها-، قال: وأخبرنا عبدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وأخبرنا عبدالعزيز بن محمد ربيح بن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده، قالوا: « فرض ... » الحديث وفيه وأمر بإخراجها قبل الغدو إلى الصلاة، وقال « أغنوهم -يعني المساكين- عن طواف هذا اليوم ».
والواقدي متروك متهم بالوضع(16).فالحديث – بطريقيه - والحالة هذه لايرتقي إلى درجة الحسن لغيره والعلم عند الله.
هذه الرواية فيها بيان حِكْمةٍ من حكم زكاة الفطر وهي إغناء الفقراء والمحتاجين في يوم العيد فلا يسألون الناس، وهذا مظهر من مظاهر التكافل الإجتماعي الذي حثَّ عليه ديننا الحنيف.
وقد استدل بها على جواز إخراج القيمة بدلاً عن الطعام في زكاة الفطر ووجه الدلالة من الحديث -على فرض ثبوته- أن الإغناء يتحقق بالقيمة كما يتحقق بالطعام وربما كانت القيمة أفضل(17).
واستدلوا ببعض الآثار منها ما أخرج ابن أبي شيبة –وعقد عليه باب إخراج الدراهم في زكاة الفطر - قال:حدثنا أبو أسامة ،عن عوف، قال: سمعت كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بالبصرة:(يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم ، عن كل إنسان نصف درهم) يعني زكاة الفطر(18).
حدثنا وكيع عن قرة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبدالعزيز في زكاة الفطر: (نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته:نصف درهم )لا بأس أن تعطي الدراهم في صدقة الفطر(19).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدّون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام(20).
فهذا عمر بن عبدالعزيز في عصر التابعين يرسل إلى عامله، وعلماء التابعين متوافرون، ولا يخفى عليهم فعل إمام المسلمين.
وهذا أبو أسحاق السبيعي –وهو من الطبقة الوسطى من التابعين أدرك عليا وبعض الصحابة رضي الله عنهم - يثبت أن ذلك كان معمولا به في عصرهم فقوله أدركتهم يعني به الصحابة.
ومن الأدلة على ذلك أيضًا أن أخذ القيمة في زكاة المال ثابتٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة ومن ذلك قول البخاري في الصحيح: باب العرْض في الزكاة وقال طاووس قال معاذ –رضي الله عنه- لأهل اليمن: ائتوني بعرْض ثيابٍ خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهونُ عليكم وخيرٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(21).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « وأما خالدٌ فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله »(22).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « تصدقن ولو من حليكنّ » (23) فلم يستثن صدقة الفطر من غيرها فجعلت المرأة تلقي خرصها و سخابها. ولم يخصّ الذهب والفضة من العروض.
حدثنا محمد بن عبدالله قال: حدثني أبي قال: حدثني ثمامة أن أنسًا -رضي الله عنه- حدّثه أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: « ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء »(24) ا.هـ.
قلت: وهذه الأحاديث والآثار دالّةٌ على اعتبار القيمة في إخراج الزكاة، فأثر معاذ ظاهر في الدلالة أما حديث خالد بن الوليد فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم له أن يحاسب نفسه بما حبسه فيما يجب عليه فدلّ على جواز إخراج القيمة، وكذلك حديث زكاة بهيمة الأنعام هو صريح في جواز أخذ القيمة بدلاً من الواجب.
وإذا ثبت جواز أخذ القيمة في الزكاة المفروضة في الأعيان فجوازها في الزكاة المفروضة على الرقاب من باب أولى(25).
ومن الأدلة أيضًا تجويز الصحابة إخراج نصف صاع من القمح لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير وقد صح عن معاوية –رضي الله عنه- أنه فعل ذلك(26).
فهذه الآثار دالة بمجموعها على جواز دفعها نقودًا.
وأيضًا فإنه من حيث النظر، والتعليل، والحكمة التي تتفق مع مقاصد الشريعة فإن ازدياد الحاجة للمال وتقلص الحاجة للحبوب يتضح مع مرور الأيام.
وفي مقال(27) للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان ذكر أن النصوص الواردة فيما يخرج في زكاة الفطر هي دالة على اعتبار الطعام المعتاد كحال البلد، ثم ذكر أن الرجل كان يفرح في السابق بهذه الحنطة وهذه الحبوب فيحملها إلى أهله حتى يصنعون منها الخبز بعد طحنها وإصلاحها، وأن هذا الأمر لم يعد معمولاً به في الوقت الحاضر بل إن الفقراء يبيعون ما يحصلون عليه من زكاة الفطر كالأرز وغيره حتى يحصلوا على النقود إلى أن يقول: إنه -أي الفقير- يحتاج إلى كثير من الأشياء الضرورية التي ترهقه، ولا يستطيع تلبيتها من دون عون من الله ثم بما يقدمه له إخوانه المسلمون من زكاتهم المفروضة، إنه يفكر في سداد فاتورة الكهرباء التي لا يقوم بها أحد سواه، وكذلك سقيا الماء لأبنائه وعائلته، ولوازمهم المدرسية التي تكلفه الكثير الكثير من المال عدا الأشياء الضرورية التي لا يستطيع التخلي عنها. هذا هو الواقع الذي يعيشه الفقير إن انفصال المقصد الشرعي من هذه الفريضة والتجاهل للواقع انحراف عن مقاصد الشرع، وتنزيل للأحكام في غير موضعها، فقد تغيّرت حاجة الفقراء في عصر الصحابة رضوان الله عليهم فلجأوا إلى ما يحقق مقاصد الشريعة، ولم يكن ثمة اعتراض على ذلك وفي الوقت الحاضر تغيرت حاجة الفقراء، وأصبح ما هو مشروع أصلاً -إلى جانب أنه لا يسد حاجة الفقير- هدفًا للتحايل والتلاعب إنّ النظر الفقهي السليم هو الذي يؤاخي بين الأحكام الشرعية، وتأمل للواقع لتحقيق المقصد الشرعي.
قال الدكتور يوسف القرضاوي(28): والذي يلوح لي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة لسببين الأول: ندرة النقود عند العرب في ذلك الحين، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس.
والثاني: أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر، بخلاف الصاع من الطعام فإنه يشبع حاجة بشرية محددة، كما أن الطعام كان في ذلك العهد أيسر على المعطي، وأنفع للأخذ. اهـ. والله أعلم بالصواب.
وقد رجح هذا القول وأفاض في ذلك الشيخ مصطفى الزرقا(29)، وفرق الشيخ أحمد الغماري بين البوادي والتي حالها مشابهُ لحال عصور الصحابة حيث لا أسواق لبيع الطعام المطبوخ مع وجود الآلات التي تمكنهم من الانتفاع بما عندهم من الحبوب، وبين الحواضر والتي المال فيها أحوج للفقير.
وهذا يتوافق مع أصل التشريع فإن الطعام كان إخراجه أيسر في عهد الصحابة ومن الطعام الذي كان موجودًا ومتعارفًا عليه عندهم ولذلك فإن الفقهاء -حتى القائلين بعدم إخراج زكاة الفطر نقدًا- لا يُلزمون بإخراجها من نفس الأصناف الواردة في أحاديث زكاة الفطر وإنما يعبرون عن ذلك بقولهم قوت البلد، وهذا يدل على مراعاة المصلحة والحاجة. فكان من أعظم المصالح وأبلغ الحكم العدول عن المال النادر العسر إخراجه في ذلك الوقت إلى الطعام المتيسر إخراجه لكل الناس آنذاك.
وأما الحال الآن فقد تغير فصارت النقود ميسرة والحاجة لها أكثر كما سبق بيانه(30)، وعندي -والله أعلم- أن الراجح هو جواز إخراجها نقدًا ولا يعني أن هذا هو الأفضل بل الأفضل إخراج ما يحتاجه من سيعطى الزكاة ولو أخرجها نقدا مع وجود الحاجة لها حبا فقد أدى فرضه ولا يؤمر بالإعادة، كما أن العكس صحيح، وعندما يوسّع الإنسان الدائرة وينظر إلى حال المسلمين في العالم وخاصة الدول الصناعية الأوروبية مثلا والتي يتعامل الناس فيها بالنقود غالبًا فإخراجها نقدا أفضل والحالة هذه والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فتوى للعلامة الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله...
فتوى للعلامة الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله...
------------
(1) ينظر بداية المجتهد(1/64) مغني المحتاج (1/406) كشاف القناع (1/471).
(2) المبسوط (2/158).
(3) بوب البخاري (باب العرض في الزكاة)وأورد فيه جملة من الأحاديث والآثار- سيأتي ذكرها - قال ابن حجر في الفتح (3/398):قال ابن رشيد:وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل.
(4) مصنف أبي شيبة (4/37-38).
(5) الإنصاف (4/478) وعند ابن تيمية يجوز للمصلحة أيضا ينظر مجموع الفتاوى(25/79). قلت: ولا داعي للتشكيك في نسبة هذا القول لابن تيمية، فقد جاء في اختيارات ابن تيمية لبرهان الدين ابن القيم (138) ما نصه: وأنه يجوز إخراج القيمة في زكاة المال وزكاة الفطر. ا.هـ، ومما يقوي ذلك أن ابن تيمية يرى جواز إخراج نصف الصاع في القمح. الاختيارات الفقهية ص: (183) وهذا يدل على اعتبار القيمة عنده، وهو بهذا يوافق الأحناف في هذه المسألة بالذات. بدائع الصنائع (2/72).
(6) أخرجه البخاري (1504) كتاب الزكاة باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين ، ومسلم (984) (13). كتاب الزكاة باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(7) الكامل لابن عدي (7/55).
(8) سنن الدارقطني (2/152).
(9) سنن البيهقي (4/175).
(10) المستدرك (1/410).
(11) الأموال لحميد بن زنجويه (2397).
(12) المحلى (6/121).
(13) ترجمته في الضعفاء الكبير (4/308)، الكامل (7/52)، التاريخ الكبير (8/114)، لسان الميزان (7/484).
(14) المحلى (6/121).
(15) الطبقات لابن سعد (1/284).
(16) ترجمته في الضعفاء (4/107)، الكامل (4/318)، المجروحين (3/290).
(17) ينظر كتاب (فقه الزكاة) للدكتور يوسف القرضاوي (2/949).
(18) أخرجه ابن أبي شيبة (6/507 رقم 10469) قال المحقق الشيخ محمد عوامة: أبوأسامة هو حماد بن أبي أسامة وفي نسخة عن عون وفي أخرى عن ابن عون وكلاهما بصريان يروي عنهما حماد بن أسامة.
قلت: حماد بن أسامة ثقة ثبت ربما دلس .التقريب(1487)وتدليسه قليل وهو يبين من دلس عنه
عوف بن أبي جميلة الأعرابي العبدي ثقة التقريب(5215) فالأثر صحيح.
(19) المرجع السابق.
(20) المرجع السابق.
(21) أخرجه يحيى بن آدم القرشي في « الخراج » ت: أحمد شاكر رقم 525 ص(147)، قال ابن حجر في «الفتح» (3/398): هذا التعليق صحيح الإسناد إلى طاووس لكن طاووس لم يسمع من معاذ فهو منقطع، فلا يغتر بقول من قال ذكره البخاريُّ بالتعليق الجاز فهو صحيح عنده لأن ذلك لا يفيد إلا الصحة إلى من علق عنه، وأما باقي الإسناد فلا، إلا أنّ إيراده له في معرض الاحتجاج يقتضي قوته عنده وكأنه عضده عند الأحاديث التي ذكرها في الباب.
قوله خميس: هو الثوب الذي طوله خمسة أذرع. النهاية (2/75).
قوله لبيس: أي ملبوس فعيل بمعنى مفعول. الفتح (3/398).
(22) أخرجه البخاري رقم (1468) الزكاة، باب قوله تعالى: (وفي الرقاب).
(23) أخرجه البخاري رقم (977) العيدين باب العلم الذي بالمصلّى.
(24) صحيح البخاري ص(281-282) بيت الأفكار.
(25) تحقيق الآمال ص(59).
(26) صحيح البخاري (1508)، وقد ورد ما يفيد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث جمعها الغماري في « تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطربالمال » حيث ساق اثني عشر حديثًا موصولاً وذكر بعض المراسيل والموقوفات ثم قال: فهذه الروايات تثبت صحة ورود نصف الصاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق القطع والتواتر إذ يستحيل -عادة- أن يتواطأ كل هؤلاء الرواة على الكذب أو اتفاق الخلفاء الراشدين ومن ذكر معهم من الصحابة والتابعين الذين لم يفش فيهم داء التقليد على القول بما لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا ثبت ذلك، وبطل ادعاء البيهقي: ضعف أحاديث نصف الصاع من البر ثبت المطلوب وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر القيمة في زكاة الفطر » أ.هـ. تحقيق الآمال ص(83).
(27) المقال نشر في جريدة عكاظ في 17/9/1427هـ العدد 1940.
(28) فقه الزكاة (2/949).
(29) فتاوى مصطفى الزرقا ص(145).
(30) ينظر: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال ص(62، 102).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق