الجمعة، 1 مارس 2024

أنواع السنة ؟!

 أنواع السنة

مما تقدم من تعريف السنة يتبين لنا أنها تنقسم أربعة أقسام:
1 السنة القولية. 2 السنة الفعلية. 3 السنة التقريرية. 4 السنة الوصفية. لكن علماء الأصول قد أهملوا السنة الوصفية باعتبار أنها لا يستفاد منها أحكام عملية تكليفية. فنوجز الكلام هنا على السنة القولية والفعلية والتقريرية.
1 السنة القولية:
وهي ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم، فكل قول صحت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وجب اتباعه فيه بحسب صيغته وما يقتضيه من وجوب ونحوه، ولا يصح إهداره أو تجاهل ما ورد فيه. وتتفاوت مراتب الأقوال بتفاوتها في درجة الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدى دلالتها صراحة أو ضمناً على الأحكام.
وسنة القول تشكل القدر الأكبر من السنة النبوية الشريفة، وتعتبر الأساس الأعظم في أخذ الأحكام والاستنباط منها فيما يعرض من شؤون.
ولعل من نافلة القول أن نذكر حجية سنة القول بعد ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك مما أجمعت عليه الأمة، ولم ينفه إلا الفرق المارقة من الدين، غير أن الاجتهاد والنظر فيها يكون من حيث دلالاتها على الوجوب أو الحرمة أو غير ذلك.
قال سيدنا عمر بن عبدالعزيز: »سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين«.
قال الإمام الخضر حسين: أما دلالة القرآن أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الأمر مشروع فواضحة ولا شأن للمجتهد في صيغ الأوامر إلا أن يتفقه فيها حتى يحملها على الوجوب أو الندب، ويتدبر أمرها فيما إذا عارضها دليل آخر ليقضي بترجيح أحدهما على الآخر، أو يفصل في أن هذا ناسخ لذاك، وطرق الترجيح أو الحكم بالنسخ مقررة في كتب الأحكام.
2 السنة الفعلية:
وهي ما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم. ولعل من الأهمية بمكان دراسة حجيتها ليتبين لنا صحة نسبة الابتداع لمخالفها أو عدم صحتها. وقد فصل ذلك العلامة محمد الخضر الحسين بما لا مزيد عليه فقال:
»من أفعاله عليه الصلاة والسلام ما يصدر على وجه الجِبِلَّة أو العادة كالقيام والقعود والاضطجاع والأكل والشرب واللبس، وهذا الضرب غير داخل فيما يطلب فيه التأسي، وغاية ما يفيده فعله عليه الصلاة والسلام لمثل هذه الأشياء الإباحة، فإذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قام في مكان أو زمان، أو ركب نوعاً من الدواب، أو تناول لوناً من الأطعمة، أو لبس صنفاً من الثياب فلا يقال فيمن لم يفعل شيئاً من ذلك: إنه تارك للسنة.
ومن أفعاله عليه الصلاة والسلام ما علم اختصاصه به كالوصال في الصوم، والزيادة في النكاح على أربع، ولا نزاع في أن مثل هذا ليس محلاً للتأسي، وما لأحد أن يقتدي به فيما هو من خصائصه.
ومنها ما عرف كونه بياناً للقرآن كقطعه يد السارق من الكوع بياناً لقوله تعالى: فاقطعوا أيديهما وحكم الاقتداء به في هذا حكم المبيَّن من وجوب أو استحباب.
ومنها مالم يكن جبلياً ولا خصوصية ولا بياناً، وهذا إذا علمت صفته في حقه عليه الصلاة والسلام من وجوب أو ندب أو إباحة فأمته تابعة له في الحكم، إذ الأصل تساوي المكلفين في الأحكام.
فإن فعل صلى الله عليه وسلم أمراً ولم يقم دليل خاص على أنه فعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، فهذا إما أن يظهر فيه معنى القربة كافتتاحه الرسائل بكلمة: »بسم الله الرحمن الرحيم« فيحمل على أقل مراتب القرب وهو الندب، وإما أن لا يظهر فيه معنى القربة فيدل على أنه مأذون فيه، ومن أهل العلم من يذهب فيه مذهب المندوب إليه نظراً إلى أنه عليه الصلاة والسلام مشرع، فالأصل في أفعاله التشريع، ومثال هذا إرساله عليه الصلاة والسلام شعر رأسه الشريف إلى شحمة الأذن، وهو عمل لا يظهر فيه معنى القربة، ولكن بعض أهل العلم كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي بكر الطرطوشي جعلوه من مواضع الاقتداء، ورأى آخرون أن هذا محمول على العادة، فإذا جرت عادة قوم بنحو الحلق فلا يوصفون بأنهم تركوا ما هو سنة.
ومما يشبه إرسال الشعر إلى الأذن إرساله عليه الصلاة والسلام ذؤابة من العمامة، وهي المسماة »العذبة« وقد ورد في حديث عمرو بن حريث في فتح مكة: »كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه«، وحديث ابن عمر: »كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل بين كتفيه«.
وإذا كان إرسال ذؤابة من العمامة مما لا يظهر فيه معنى القربة يكون موضعاً لاختلاف أهل العلم، فمنهم من يجعله من قبيل ما يتأسى به، وإلى هذا يجنح أبو بكر بن العربي، وقد روى الترمذي عن ابن عمر وسالم والقاسم أنهم كانوا يفعلونه، ومنهم من يراه من قبيل العادة فلا يعد المتعمم من غير عذبة تاركاً لسنة، وهذه وجهة نظر من لم يكن يرسل العذبة من السلف، قال الإمام مالك إنه لم ير أحداً يفعله إلا عامر بن عبدالله بن الزبير.
وقد يتقارب الحال في بعض الأفعال، فلا يظهر جلياً أهو عادة أم شريعة، فتتردد فيه أنظار المجتهدين، نحو جلسة الاستراحة عند قيامه للثانية أو الرابعة، فذهب بعضهم إلى أنه لم يفعلها على وجه القربة فلا تدخل في قبيل السنة، وعدها طائفة فيما يستحب من أعمال الصلاة.
ومما لم يظهر فيه معنى القربة تقديم اسمه عليه الصلاة والسلام في الرسائل على اسم المرسل إليه، ولهذا لم يحافظ عليه بعض السلف محافظتهم على ما يفهمون فيه معنى القربة، فأجازوا تأخير اسم المرسل على اسم المرسل إليه. وسئل الإمام مالك عن ذلك فقال: لا بأس به. بل روي أن ابن عمر وهو من أشد الناس محافظة على السنة قد كتب إلى معاوية ثم إلى عبدالملك بن مروان وقدم اسميهما على اسمه اه.
3) السنة التقريرية:
وهي ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال، بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه، فيعتبر بهذا الإقرار والموافقة صادراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه(1).
فالإقرار يكون بالسكوت فقط وذلك أقله، كما يكون أيضاً بالإفصاح والإبانة عن إقراره، كما حققه الشيخ العلامة عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله في التتمة الأولى على الموقظة(2).
وينقسم إلى إقرار على القول، وإقرار على الفعل، وكل منهما ينقسم إلى ما فعل بحضرته، وما فعل بعيداً عنه وعلم به، إما لأن أحداً أخبره، أو لأن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يخفى عليه اه(1).
حجية سنة الإقرار:
الحق الذي لا مرية فيه هو أن الإقرار منه صلى الله عليه وسلم حجة دالة على جواز ما أقره صلى الله عليه وسلم مالم يقترن بدليل يدل على الندب أو الوجوب.
يقول العلامة الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله: من مقتضى ما تقرر من عصمته صلى الله عليه وسلم وأمانته في التبليغ أن لا يقر أحداً على أمر غير مأذون فيه شرعاً، فيكون إقراره للأمر دليلاً على أنه لا حرج في فعله سواء شاهده بنفسه فسكت، أو بلغه فلم ينكره، وما لا حرج فيه يشمل الواجب والمندوب والمباح، فيحمل على أقل مراتبه وهو الجواز حتى يقوم الدليل على الندب أو الوجوب، ولا يدل الإقرار على جواز الفعل في حق من أقره النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل يكون الجواز حكماً شاملاً لجميع المكلفين أخذاً بالأصل الذي هو استواء الناس في أحكام الشريعة، فليس لأحد أن يعد اللعب في المسجد بالسلاح تمريناً على الحرب أمراً مخالفاً للسنة بعد أن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحبشة على اللعب في مسجده بالحراب، وليس لأحد أن ينكر على المعتدة عدة وفاة إذا خرجت للاستفتاء بعد أن ثبت أن فريعة بنت مالك خرجت للاستفتاء بعد وفاة زوجها تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع العدة، فقال لها: امكثي حتى تنقضي عدتك، ولم يتعرض لخروجها بإنكار اه.
وكون الإقرار حجة على الجواز هو ما ذهب إليه أكثر علماء الأصول والحديث، سوى ما كان من مخالفة الإمام الشاطبي حيث ذهب إلى أن التأسي بالإقرار لا يتم جوازه أو قبوله إلا إن وافقه فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فالإقرار عنده لا يدل على مطلق الجواز من غير نظر، بل منه ما يكون كذلك كالإقرار على المباحات الصرفة والمطلوبات، ومنه ما لا يكون كذلك، كالإقرار على سماع الغناء غير المحرم، فإن قارن الإقرار قول فالحكم ظاهر وهو مطلق الصحة والإذن، وإن قارنه فعل فينظر إلى الفعل فيقضى بمطلق الصحة فيه مع المطابقة دون المخالفة(1).
وهو بذلك مخالف لجمهور علماء الأمة الذين رأوا أن الإقرار دليل الجواز، فلم يشترطوا في جواز ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم فعله لذلك، أو مشاركته فيما أقر عليه أو في مثله.
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع، ولا يُجوِّز لأمته إلا ما لا شائبة للحرمة فيه، فلو أقر صلى الله عليه وسلم على ما ليس بحق كان مقراً على منكر، وهو معصوم من أن يقر أحداً على منكر.
ثم إن في ترك الإنكار فوق ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو غير جائز أيضاً.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: فإن قيل: إن كان فعله بياناً، فتقريره على الفعل وسكوته عليه وتركه الإنكار واستبشاره بالفعل أو مدحه له هل يدل على الجواز، وهل يكون بياناً؟
قلنا: نعم، سكوته مع المعرفة وتركه الإنكار دليل على الجواز؛ إذ لا يجوز له ترك الإنكار لو كان حراماً، ولا يجوز له الاستبشار بالباطل، فيكون دليلاً على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة. وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية ويجوز عليه الصغيرة، ونحن نعلم اتفاق الصحابة على إنكار ذلك وإحالته(1).انتهى.
علاقة السنة التقريرية بالبدعة الحسنة
إن بين سنة الإقرار ومفهوم البدعة علاقة وثقى ورابطة محكمة وصلة وطيدة، ومع ذلك فإنها مما لم تتبين لكثير من العلماء، ولم يتفطن لها كثير من الفضلاء، وفيما يلي بيان لها:
فابتداء نعود فنُذكِّر بمعنى سنة الإقرار بشيء من البيان والوضوح فنقول:
إن السنة التقريرية تعني أن يقول أحد الصحابة قولاً أو أن يفعل فعلاً ابتداء من نفسه، دون أن يكون له سند من كتاب أو سنة يخصه بعينه، ثم يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فيسكت عنه صلى الله عليه وسلم ولا ينكره، أو يقرره بقول منه أو فعل من جنسه أو استبشار به أو دعاء لفاعله، إلى غير ذلك مما يعلم به جواز هذا الفعل أو القول، فيصير سنة نبوية شريفة بهذا الإقرار يعلم بها جواز ما أقره له ولغيره من الأمة كما فصله وقرره علماء الشريعة الغراء.
فالناظر في هذا الكلام يعلم أن للسنة التقريرية أركاناً لابد منها:
1 إحداث أحد الصحابة الكرام شيئاً لم يكن.
2 بلوغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
3 إقراره صلى الله عليه وسلم لذلك بسكوت أو قول أو فعل أو غير ذلك.
ومن هذا البيان والتفصيل تتبين لنا العلاقة الوثقى بين سنة الإقرار ومفهوم البدعة، حيث إن سنة الإقرار في أصلها بدعة أحدثها الصحابي، ثم بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر فاعلها وجوز فعلها. ولو أن كل بدعة ضلالة في الدين لا يجوز فعلها لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فعل للصحابة لم يكن لهم به سند من كتاب أو سنة، ولكن الناظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه يقررهم على كثير من الأفعال والأقوال التي ابتدؤوها من أنفسهم إن كانت داخلة في عموم دليل شرعي أو راجعة إلى قاعدة شرعية. وفي السنة الشريفة أمثلة كثيرة على ما ذكرناه، فمن ذلك:
1 ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: »يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك في الجنة«، قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً قط في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي.
قال ابن حجر: يستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة، لأن بلالاً توصل إلى ما ذكره بالاستنباط، فصوبه الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى(1).
فانظر رعاك الله إلى سيدنا بلال رضي الله عنه كيف أحدث عبادة لم يرد بها نص من قرآن، أو أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصها بعينها، وواظب عليها مدة من الزمن دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت موقع القبول من الله تعالى بحيث كانت سبباً في دخوله الجنة، فقد قال له صلى الله عليه وسلم كما في رواية الترمذي »بهما« أي: بهاتين الركعتين نلت هذه المنزلة العظيمة، فكان ذلك إقراراً منه صلى الله عليه وسلم لسيدنا بلال على ما أحدث، وأضحت هاتان الركعتان بعد الوضوء سنة في حق الأمة كلها.
2 ما رواه البخاري وغيره عن رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: »سمع الله لمن حمده«. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: »من المتكلم«؟ قال: أنا: قال: »رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها«.
قال الحافظ ابن حجر(1): استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور اه.
3 ما جاء في صحيح مسلم(2) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من القائل كلمة كذا وكذا« قال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. قال: »عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء«. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
فانظر إلى هذا الذكر الذي فتحت له أبواب السماء، وقد قاله الصحابي ابتداء من نفسه دون أن يكون له سند من كتاب أو سنة، ثم أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر فضيلته فصار سنة نبوية شريفة التزمها سيدنا ابن عمر ومن بعده من الأمة كثيرون.
والأدلة على ما قلناه كثيرة، والأمثلة وفيرة لمن طالع كتب السنة بعين التحقيق والإنصاف، فسوف يرى أن سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواجهة البدع والمحدثات لم تكن بردها دائماً، بل منها ما يقبله، بل ويرتضيه ويقرره ويذكر له فضيلة عظيمة كما في الأمثلة السابقة، ومنها ما يرده إن كان يخالف مقاصد الشريعة ويفوت مصالحها أو يصادم نصوصها، كإنكاره صلى الله عليه وسلم على النفر الذين سألوا عن عمله فتقالوه، فشددوا على أنفسهم بصوم الدهر واعتزال النساء وقيام الليل كله؛ لما في ذلك من التشديد والتنطع المخالف لروح الدين اليسر الحنيف. فنستطيع أن نقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر مبدأ الإحداث قطّ، وإنما كان ينكر المحدثات إذا لم تتوفر فيها شروط القبول والموافقة للشرع الإسلامي الحنيف.
بل إننا لنلاحظ أيضاً أن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم مع شدة حرصهم على متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله لم يفهموا من ذلك أن كل محدثة بدعة ضلالة لا ينبغي الإتيان بها، بل كانوا يفعلون كما رأينا بعض مالم يكن لهم فيه نص من كتاب أو سنة إن علموا أن مقاصد الشريعة تسعه، ونصوصها لا تأباه.
فإن قال قائل: إن ذلك جائز في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه سيعلمه إما بإخبارهم أو بوحي من الله تعالى، فإن كان هدىً أقره، وإن كان ضلالة رده، أما بعد حياته صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي فذلك غير جائز.
قلنا: إن من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من أحدث أشياء ليس له فيها نص بعينها، وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد لينظر فيما فعل أهو سنة حسنة أم بدعة ضلالة، ومن ذلك صلاة سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه ركعتين قبل أن يقتل حيث جاء في حديث البخاري(1): فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً.
قال الدكتور محمود عبود هرموش في كتابه (البدعة وأثرها في اختلاف الأمة)(2): وفي هذا تصريح واضح بأن خبيباً اجتهد في توقيت العبادة ولم يسبق من الرسول صلى الله عليه وسلم، أمر ولا فعل، وهو علم أنه سيموت قبل أن يعرض عمله هذا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقدم على هذا العمل وهو يعلم أنه لن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أراد أحد إيقاع الصلاة في غير أوقات الكراهة التي نهى الشارع عن إيقاع الصلاة فيها، فإن هذا الفعل يكون من قبيل السنة الحسنة، وأما من يوقعها في أوقات النهي فإن فعله يكون من قبيل البدعة المذمومة لكونها وقعت مخالفة لهديه وسنته صلى الله عليه وسلم.انتهى.
أقول: فهل مات سيدنا خبيب ضالاً مبتدعاً بإحداثه هاتين الركعتين قبل أن يعلم بأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره عليهما؟!! حاشا وكلا، بل هو المؤمن الصالح والشهيد الكريم الذي رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه فقال: »وعليك السلام يا خبيب قتلته قريش«(1) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وانقطع الوحي، فإن نصوص القرآن والسنة ما زالت موجودة محفوظة ولله الحمد، وما زالت قواعد الشرع الحنيف ومقاصده قائمة معلومة يعرض عليها كل محدث وجديد، فإن قبل في ميزانها كان بدعة حسنة، وإلا فهو بدعة ضلالة نبرأ إلى الله منها، ولسنا ندعي حسن البدعة دون ضوابط وقواعد وعرض على الكتاب والسنة، بل لذلك شروط وقواعد لابد منها سنعرض لها إن شاء الله تعالى في خاتمة بحثنا. والله الموفق.
* * *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق