الجمعة، 1 مارس 2024

مناقشة آراء العلماء في تقسيم البدعة ( البدعة الحسنة - البدعة السيئة )

 مناقشة آراء العلماء في تقسيم البدعة

وفيه ثلاثة مطالب:
1 منكرو البدعة الحسنة وأدلتهم.
2 مثبتو البدعة الحسنة وأدلتهم.
3 الرأي الذي نرجحُهُ.
المطلب الأول: منكرو البدعة الحسنة وأدلتهم
كانت وما تزال مسألة البدعة الحسنة ووجودها في الشرع محل بحث ونظر ومناقشة بين العلماء، فمن منكر لها وناف لوجودها، ومن مثبت لها ومدافع عنها، ولكل من الفريقين حجج وبراهين يستندون إليها فيما ذهبوا إليه، ونحن فيما يلي سنعرض بحول الله لحجج كل من الفريقين مع المناقشة والموازنة، ولنا رأي فيها أوصلنا إليه البحث والنظر نختم به هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
أولاً: نفاة البدعة الحسنة:
ذهب إلى هذا الرأي جملة من العلماء المتقدمين، وتبعهم عليه بعض المحدَثين، فممن ذهب إليه من المتقدمين:
1 ابن تيمية: حيث عاب على من قسم البدعة إلى حسنة وقبيحة، وأطال في إقامة الحجة لما ذهب إليه، وإبطال حجج مخالفيه في اقتضاء الصراط المستقيم.(1) 2 الإمام الشاطبي: وقد بنى كتابه الاعتصام على ذلك.
3 الإمام الزركشي حيث قال: البدعة في الأصل موضوع للحادث المذموم.
4 الإمام ابن رجب الحنبلي: حيث قال في جامع العلوم والحكم (2): والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة.
وجملة ما استدل به هذا الفريق ترجع إلى ثلاثة أمور رئيسة:
1 قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فهذه الآية تدل على أن الدين قد كمل وتم، فلا حاجة لأن يزاد عليه شيء، فإن الزيادة عليه تعتبراستدراكاً على الله تعالى، وتوحي بأن الشريعة ناقصة، وهذا يخالف ما قررته الآية، ولا يقول بذلك أحد من المسلمين.
2 ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في ذم البدعة والمبتدع.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: »وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة«.
فيرون أن هذا الحديث نص في ذم البدعة على الإطلاق والعموم دون تمييز بين بدعة وأخرى، فيستفاد منه أن ليس هناك بدعة حسنة غير مذمومة. ومثله حديث جابر ابن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: »أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة«.
وهكذا فلم يرد لفظ البدعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مذموماً مقابلاً لسنة الهدى.
3 إطلاق السلف لفظ البدعة على ما هو مذموم مخالف للسنة، وذم المبتدع على لسانهم مطلقاً دون تفصيل، كما في كثير من الأخبار التي وردت عن السلف، ومنها:
1 قول ابن مسعود رضي الله عنه: »اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم« الطبراني الكبير(1)..
2 قول ابن عباس رضي الله عنهما: »ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة حتى تحيى البدع وتموت السنن« الطبراني في الكبير(2).
3 عن مجاهد قال: دخلت مع عبدالله بن عمر مسجداً، وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوب المؤذن، فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال:اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصلِّ فيه.
إلى غير ذلك مما ورد عن السلف من إطلاق البدعة على الشيء المحدث المذموم، مما يدل على أنها في لسان الشرع لا تكون إلا علماً على المذموم المنافي لهدي الإسلام، حتى إنه قد شاع إطلاق لفظ المبتدع على كل من حاد عن طريق أهل السنة والجماعة، وتنكب عن طريق السلف الصالح.
تنبيه:
أما الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، فقد تعارضت أقواله في هذه المسألة فنفاها مرة، وأثبتها أخرى فمن جعله من مثبتي البدعة الحسنة أو من نافيها فقد أخطأ وإليك ما قاله في هذا الشأن.
قال رحمه الله تعالى في فتح الباري(1): والمحدَثات بفتح الدال جمع محدثة، والمراد بها: ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محموداً أو مذموماً.
وقال أيضاً:
وأما قوله في حديث العرباض: »فإن كل بدعة ضلالة« بعد قوله: »وإياكم ومحدثات الأمور« فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة، وقوله: »كل بدعة ضلالة« قاعدة شرعية كلية، بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأنما يقال: حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع، لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة، صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله: »كل بدعة ضلالة« ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام(1).
فنفاها في هذه الأقوال، ثم أثبتها ثانية في الفتح(1) حيث قال تعليقاً على قول عمر: »نعمت البدعة هذه«، قال: البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة. والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح.اه.
ولعل هذا هو الذي يميل إليه ويعتمده لقوله: إنه التحقيق، كما أن الإثبات مقدم على النفي عند التعارض إذا لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر. والله أعلم.
المطلب الثاني: مثبتو البدعة الحسنة وأدلتهم
وقد ذهب إلى هذا القول جمهرة من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين، محدثين وفقهاء وأصوليين، فممن ذهب إليه:
1 الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
فقد قال رحمه الله: المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه البدعة الضلالة.
والثانية: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة...(1)
وأخرجه من طريق أخر أبو نعيم في حلية الأولياء(2) قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم.
2 ابن حزم الظاهري رحمه الله:
فقد قال: البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه، ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسناً، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه: »نعمت البدعة هذه« وهو ما كان فعل خير جاء النص بعمومه استحباباً وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به. انتهى.
3 الإمام الغزالي:
حيث قال في معرض كلامه عن نقط القرآن وتجزيئه:
ولا يمنع من ذلك كونه محدثاً، فكم من محدث حسن، كما قيل في إقامة الجماعات في التراويح: إنها من محدثات عمر رضي الله عنه، وإنها بدعة حسنة، إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها (1).
4 الإمام العز بن عبدالسلام:
حيث يعرف البدعة بقوله: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى بدعة واجبة وبدعة محرمة وبدعة مندوبة وبدعة مكروهة وبدعة مباحة.. إلى آخر كلامه كما تقدم.
ولا يحصى كم تابع الإمام العز على تقسيمه هذا للبدعة من العلماء والأئمة من تلامذته كالإمام القرافي، ومن غيرهم كالإمام النووي والإمام السيوطي والإمام الزرقاني والكرماني وابن عابدين الشامي، وغيرهم ممن يصعب حصرهم وعدهم، رحمهم الله أجمعين.
5 الإمام الحافظ ابن العربي المالكي:
حيث يقول في شرحه على سنن الترمذي(1) ما نصه: اعلموا علمكم الله أن المحدثات على قسمين: محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بمقتضى الإرادة، فهذا باطل قطعاً. ومحدث بحمل النظير على النظير، فهذه سنة الخلفاء، والأئمة الفضلاء، وليس المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة ولا لمعناها، فقد قال تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وقال عمر:»نعمت البدعة هذه« وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة. انتهى.
6 العلامة ابن الأثير الجزري:
فقد قال في كتابه النهاية في غريب الحديث(2): البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلالة، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض الله عليه أو رسوله فهو في حيز المدح. وما لم يكن له مثال موجود كنوع من السخاء والجود وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: »من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها« وقال ضده: »من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها« وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم... إلى أن قال: وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر: »وكل محدثة بدعة« يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة.
7 الإمام ابن الجوزي:
حيث قال: البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعالي عليها بزيادة أو نقص، فإن ابتدع شيء ولا يخالف الشريعة، ولا يوجب التعالي عليها، فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً، حفظاً للأصل، وهو الاتباع. وقد قال زيد بن ثابت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين قالا له: اجمع القرآن: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم قال: إن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن، وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا تتعارض معها، فلم يروا فعلها بأساً مثل جمع عمر الناس على صلاة القيام في رمضان فرآهم فقال:نعمت البدعة هذه (1).
8 الإمام شهاب الدين أبو شامة:
حيث عرف البدعة في كتابه »الباعث على إنكار البدع والحوادث« (2) بقوله:
كل ما هو مخترع من غير أصل سبق، وهو ما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مما فعله أو أقرَّ به، أو علم من قواعد شريعته الإذن فيه، وعدم النكير، وفي ذلك ما كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم، وعلى هذا فالحوادث منقسمة إلى بدعة مستحسنة، وهي ما وافق السنة، وإلى بدعة مستقبحة وهي ما خالف السنة.
9 الإمام النووي:
حيث عرف البدعة بقوله: البدعة بكسر الباء في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة، قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته العز بن عبدالسلام. ثم ساق كلام العز المتقدم.
10 الإمام العيني:
وقد عرف البدعة بقوله: البدعة لغة كل شيء على غير مثال سابق. وشرعاً: إحداث ما لم يكن له أصل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي على قسمين: بدعة ضلالة، وبدعة حسنة، وهي ما رآه المسلمون حسناً، ولا يكون مخالفاً للكتاب والسنة والإجماع.
11 الإمام الكرماني:
حيث قال في شرحه للبخاري(1):
»البدعة« كل شيء عمل على غير مثال سبق، وهي خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة ومكروهة ومباحة، وحديث »كل بدعة ضلالة« من العام المخصوص.
12 الإمام الزرقاني:
حيث قال في شرحه على موطأ الإمام مالك(2) عند قول عمر »نعمت البدعة هذه« قال: وصفها ب(نعمت) لأن أصل ما فعله سنة، وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة. وقال ابن عمر في صلاة الضحى: نعمت البدعة، وقال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وأما ابتداع الأشياء في عمل الدنيا فمباح. قاله ابن عبدالبر... إلى أن ذكر تقسيمها إلى الأحكام الخمسة اتباعاً للإمام العز بن عبدالسلام.
وغير هؤلاء من الأئمة والعلماء كثيرون نسجوا على منوالهم، وذهبوا إلى مثل ما ذهبوا إليه، ممن يطول ذكرهم ولا يخرج كلامهم في الجملة عن كلام من سقناهم هنا، فلا نطيل بذكرهم. ونشرع الآن في ذكر أدلتهم وحججهم على ما ذهبوا إليه، فنقول وبالله التوفيق:
أدلتهم من القرآن:
قال الصحابي أبو أمامة رضي الله عنه: إن اللّه فرض عليكم صوم رمضان ولم يفرض عليكم قيامه، وإنما قيامه أحدثتموه، فدوموا عليه، فإن ناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة فعابهم الله بتركها فقال: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.انتهى
فالآية ما عابت أولئك الناس على ابتداع الرهبانية لأنهم قصدوا بها رضوان الله، بل عابت الآيةُ عليهم أنهم لم يرعوها حق رعايتها، وهذا يفيد مشروعية البدعة الحسنة، فما استنبطه الصحابي أبو أمامة صحيح لا غبار عليه.
وقد تقدم الكلام في تفسير الآية مستوفى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق